اكتشاف الأسطورة

منذ وفاته نهاية الشهر الفائت، وأنا أواظب مع مجموعة من الأصدقاء على مشاهدة مقاطع فيديو لشيء من الروائع الفنية التي قدمها أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا واستمتع بها لسنوات عشاق المستديرة حول العالم، إلا معشر مشجعيه في العراق الذين منعتهم شمولية “البعث” وحروبه العبثية والحصار والمقاطعة من ذلك.

ومع سطوع نجومية فتى الأرجنتين الذهبي في سماء الكرة العالمية منتصف ثمانينات القرن الماضي، كانت أخبار الحرب مع إيران وما يتخللها من نشرات المعارك ورسائل الجبهات وخطابات “القائد” التي تُبث لساعات من على شاشة التلفزيون والإذاعة الرسميتين، أكثر ما ينصت له العراقيون حتى مع تأهل منتخبهم الوطني لنهائيات كأس العالم في المكسيك عام 1986 التي أحرز مارادونا ورفاقه لقبها.

في تلك الفترة، ذاع اسم “راقص التانغو” كثيرا واشتهر في المعمورة خصوصا مع انتقاله إلى نادي نابولي الايطالي عام  1984 قادما من برشلونة الاسباني، بعقد فلكي تجاوزت قيمته المالية آنذاك الثمانية ملايين دولار! جُمعت معظمها على شكل تبرعات من سكان مدينة الجنوب الايطالي العاشقين حد الوله لشيء أسمه كرة القدم.

صال وجال مارادونا في الملاعب الايطالية والأوروبية، وحقق البطولات والأمجاد لناديه الجديد وكاد يحقق الكأس العالمية الأغلى للمرة الثانية لبلاده عام 1990 في ايطاليا، لكنه حُرم منها في نهاية المطاف من قبل “شياطين الأرض”.

وبسبب موقفه السياسي من الولايات المتحدة -كما يعتقد كثيرون- لُفقت له تهمة تعاطي المنشطات خلال بطولة عام 1994 في أمريكا التي يكرهها بقوة ويكره كل ما يأتي منها حتى انه وصف رئيسها الأسبق جورج بوش الأب بـ”القمامة السياسية”، ليُستبعد من البطولة العالمية الرابعة التي خاضها على التوالي.

لم نكن أنا وأصدقائي أو غيرنا من أبناء عقدي السبعينات والستينات والأجيال اللاحقة في العراق المولعين برياضة كرة القدم وأخبار مشاهيرها، نعرف شيئا أو على اطلاع كبقية المشجعين الرياضيين في المنطقة والعالم، على كل تلك المعلومات وما كان يفعله بطل كأس العالم بالخصوم والمنافسين على أرض الملعب، إلا ما ندر.

وكذلك الحال بالنسبة لقصصه الأخرى، كالعداوة الشرسة التي تكنها له مافيا المخدرات والمراهنات الايطالية التي دست السم في عسل حياته الشخصية، ومناهضته للاستعمار والغزو الأجنبي والامبريالية، ومناصرته للقضايا الإنسانية، ووقوفه مع الشعوب المستضعفة والفقراء والمعدمين والمظلومين حول العالم، وخلافه الشديد مع بعض أركان “الفيفا” المشبوهين، ومناوشاته مع غريمه سابقا وصديقه لاحقا اللاعب البرازيلي “بيليه” ومغامراته العاطفية..الخ.

كل هذه القصص الحياتية لأفضل لاعب في العالم، خبرناها بمعلوماتها الواسعة وتفاصيلها الدقيقة بعد انقشاع غبرة النظام الشمولي وإعلامه الأيدلوجي الموجه الذي كان يعمل تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

وبما أن سنوات حكم “البعث” المنحل كانت بمعظمها حروبا ومعارك ونزاعات على المستويين الداخلي والخارجي، فلم يسعفنا الحظ نحن معشر مشجعيه العراقيين في فهم كل ما يجري لمعشوق جماهير الكرة الأرضية، وما يتعرض له كابتن الأرجنتين من مضايقات ومؤامرات وعداوات وشيطنة إعلامية وسياسية تكنها له بعض حكومات الغرب- الأطلسي.

ففي حقبة الثمانيات التي لمع فيها نجم ابن بلاد الفضة، وأخباره باتت تملأ الصحف والمجلات والإذاعات والقنوات التلفزيونية، كان العراق يمتلك قناتين محليتين فقط مخصصة برامجهما بشكل شبه كامل لدعاية حرب الثماني سنوات وبروباغندتها، بينما كانت حصة الرياضة تقتصر على برنامج أسبوعي يتيم مدته ساعة مع الفواصل الإعلانية.

البرنامج المذكور، الذي حمل اسم “الرياضة في أسبوع” تم إيقافه في منتصف التسعينات بأمر من عدي صدام حسين، الذي كان قد بسط سطوته على كامل مفاصل الرياضة والإعلام في البلاد قبل عقد من إيقاف البرنامج الرياضي الوحيد الذي كان يتابعه ويستمتع بمشاهدته ملايين العراقيين، وينقل فيه مقتطفات من أخبار مارادونا ولمحاته الفنية.

بعدها عاش الجمهور الرياضي العراقي، تحت الأهواء الطائشة والتصرفات الرعناء لـ”راعي الرياضة والشباب” وهو لقب كان يطلقه المتملقون على النجل الأكبر لرئيس النظام السابق، الذي ترأس اللجنة الأولمبية الرياضية العراقية والاتحاد المركزي لكرة القدم وغيرها من المؤسسات المعنية بالرياضة، إلى جانب إدارته لصحف ومجلات وقناة جديدة اسماها تلفزيون “الشباب”.

في هذه الواجهات الإعلامية الثلاث التي لم تخرج كثيرا عن عباءة الشمولية الحزبية، كان عدي يمارس ساديته على جمهور كرة القدم تحديدا.

إذ تحكم ببث مباريات كرة القدم وغيرها من المسابقات الرياضية الأخرى؛ وبات الأمر يخضع لمزاجيته، وفقا لأحد الموظفين السابقين في تلفزيون الشباب الذي يستذكر تلك الأيام بعفوية، قائلا: “إذا كان مزاج عدي رائقا ذلك النهار يأمر بنقل المباريات، وان كان متعكرا يبات الجمهور دون مشاهدة..”.

ويضيف الموظف السابق في حديث مع مجموعة من زملائه الجدد: “حتى انه في أكثر من مرة كان يتم قطع بث المباريات التي تتم قرصنتها من قنوات عربية وأجنبية، وذلك لخسارة الفريق الذي يشجعه عدي! وأحيانا يمنع بثها أصلا على الجمهور ويكتفي بمشاهدتها هو وجمع من رفاقه فقط”.

ومن ضمن أساليب “الحرب النفسية” التي كان يمارسها نجل الطاغية على جمهور كرة القدم، كان يأمر بقطع بث المباريات فجأة لنقل وقائع لقاءات مُسجلة لرأس هرم النظام الحاكم مع ضيوف أجانب أو عقد اجتماعات رسمية مع مسئولين محليين وقيادات عسكرية وشيوخ عشائر، أو حتى زيارات يقوم بها إلى مدن وبلدات نائية!.

“الأستاذ” وهو لقب يفضل عدي مناداته به، كان يتحكم بما يشاهده الجمهور العراقي تماما مثلما يفعل الآن بعض مشايخ الخليج وأمراؤه الأثرياء الذين بسطوا هم الآخرون سطوتهم على مجال الإعلام والرياضة وباتوا يتحكمون بمحتوى ما يشاهده المواطن العربي، كما فعل عدي من قبلهم بالعراقيين. في وقت كان “الستلايت” ممنوعا وعقوبة امتلاكه تصل لحد الإعدام.

وهناك أسباب أخرى غير الأجندة الشمولية والحالة المزاجية لأبن “الرئيس” النزق، حرمتنا من الاستمتاع بما كان يقدمه فتى الأرجنتين العبقري، حيث ساهمت العقوبات الدولية التي فرضت على العراق عام 1991، في حرمان الجمهور الرياضي بشكل عام ومحبي مارادونا خصوصا من متابعة انجازاته وانتصاراته الكروية ومهاراته الفذة.

ومن تلك الأسباب، انقطاع التيار الكهربائي المستمر بعد الدمار الذي طال شبكات ومحطات الطاقة نتيجة للقصف الأمريكي وما لحقه من عقوبات دولية فرضت على مجمل قطاعات الحياة.

إضافة إلى المقاطعة العربية للعراق التي شملت الجوانب الثقافية والإعلامية والنقل التلفزيوني للبطولات العالمية، وهو ما دفع القائمين آنذاك إلى السطو وقرصنة المباريات إن سمحت الظروف.

وبعد الانفتاح التكنولوجي الذي شهدته  البلاد عقب الاطاحة بنظام “البعث” الشمولي في نيسان\ابريل عام  2003 بدأت رحلة عشاق مارادونا العراقيين في البحث والاكتشاف عبر الشبكة العنكبوتية وتحديدا موقع “اليوتيوب” عما فاتهم من أحداث كروية تاريخية كان الأسطورة الأرجنتينية أو الملك رقم 10 بطلها الهمام.

ولعل قصة المقولة العفوية التي كتبها احد مشجعي نابولي على حائط مقبرة المدينة عقب مجيء مارادونا لناديهم، والتي خاطب فيها موتى مدينته بالقول “لو تعلمون ما فاتكم” تنطبق ايضا على عشاق مارادونا العراقيين الذي كان حالهم ايام البعث لا يختلف كثيرا عن حال سكان مقبرة نابولي.

*حيدر نجم: صحافي وكاتب مهتم بتغطية الشؤون السياسية والعامة في العراق، عمل مراسلا لعدد من الصحف العربية من بينها جريدتا “الشرق الأوسط” اللندنية و”الرأي” الكويتية، ومحررا في دورية “نقاش” الألمانية. والآن يكتب تحليلات وقصصاً صحافية بشكل مستقل.   

أقرأ أيضا