الطريق للهاوية.. الأسس الضائعة وسط صراع الأحزاب

وسط أربيل وعلى بعد بضعة مئات من الأمتار من “معرض أربيل الدولي للعقارات” الذي عرض أحدث المشاريع العقارية الكبرى بضمنها مشاريع ابراج تعانق السحاب وفلل تحيطها بحيرات اصطناعية، كانت عشرات النسوة يتظاهرن أمام دورهن احتجاجا على انقطاعات المياه التي تمتد أحيانا لأسابيع، وهن يرددن: لم نعد نحتمل.. لا يمكن ان يستمر الوضع على هذا الحال!

أخبار فعاليات المعرض وما قدمه من “فرص ومشاريع عملاقة” تصدرت غالبية المنصات الاعلامية الحزبية كمؤشر على التطور المتنامي والفرص المستقبلية المتاحة في عاصمة الاقليم المتخمة بالمشاريع العقارية التي يحاكي بعضها اصحاب الملايين فقط، لكن بالكاد ظهرت اصوات النسوة المحتجات في بعض المواقع الاعلامية الصغيرة.

طوال أشهر حزيران وتموز وآب، لا يكاد يمضي يوم دون ان تشهد احياء في اربيل احتجاجات على انقطاعات المياه واحيانا على تعثر تقديم الخدمات. يعلق مهندس مدني على واقع اربيل: اذا تفحصت بنيتها العمرانية والخدمية ستجدها مقسمة بين احياء غنية مخدومة يجذبك بريق أبنيتها وجمال شوارعها، وأخرى يبدو عليها الفقر والاهمال.

في السليمانية، ثاني أكبر مدن الاقليم والمحافظة الأكثر سكاناً، والتي تواجه منذ اسابيع انتشارا جديدا لمرض الكوليرا، في ظل عدم حصول نحو 20% من السكان على مياه صالحة للشرب بحسب تصريحات رسمية، تتلكأ المشاريع الخدمية المخطط لها منذ عقد من الزمن، بما فيها الطرق الحيوية الرابطة بين المدن التي تغزوها المطبات والحفر والقطوعات حاصدة حياة عشرات العوائل سنويا.

في ظل ادارتين حزبيتين باقليم منقسم مناطقيا بين اربيل والسليمانية على اساس النفوذ الحزبي المسلح، وبعد 30 عاما من الحكم لم تنجز حكومات الاقليم المتعاقبة طريقا واحدا بمعبرين بين أكبر مدينتين، اربيل والسليمانية، التي تفصلها السيطرات والنقاط الأمنية الحزبية.

هناك في السليمانية عاصمة الثقافة الكردية كما يصفها الكرد، كما في حلبجة رمز التضحيات الكردية الهائلة والتي تبدو ببنيتها مدينة فقيرة منسية، كما في دهوك شمالا وباقي مناطق الاقليم، تتعطل مشاريع المستشفيات والمدارس ومياه الإسالة ومياه الصرف الصحي، ووصل عدد المشاريع المتوقفة الى نحو 7 آلاف في ظل تفاقم مشكلات التمويل.

المفارقات الصادمة

في اقليم لا يكاد ينتج شيئا غير النفط ويملك مصافي كبيرة تزود باقي مناطق العراق بالبنزين، يكافح السائقون في صفوف تمتد مئات الأمتار للتزود بالبنزين بسعر يصل الى ضعف سعر البيع في بغداد. في المتوسط ساعتان من الانتظار المحير والمحبط يقضيها كل سائق. ساعتان من الفرص الضائعة والأوقات المهدورة والأسئلة التي تأتي باجابات تدمي القلوب، والكبرياء المحترق بنار أرباح الشركات الحزبية. 

في اقليم لا يملك قطاع نقل عام، وكان قادته حتى قبل سنوات قليلة يتحدثون عن تصدير النفط والغاز الى اوربا، تلتهم كلف الوقود العالية ما بين ربع الى ثلث ميزانية الموظف الحكومي الذي يعاني من تأخر مزمن في تسلم راتبه الشهري. وتحمل الحكومتان في اربيل وبغداد كل الأخرى مسؤولية عدم سدادها وسط خلافات فنية عميقة عن أرقام العائدات والمدفوعات وطرق الصرف وتفسير فقرات الموازنة.

تأخر يواجهه بصبر متوارث نحو مليون و250 الف موظف ومتقاعد يشكلون قرابة ربع سكان الاقليم، في ظل الفشل المزمن في تحريك وتطوير القطاع الخاص المترنح تحت وطأة احتكارات الشركات الحزبية، ومع ارتفاع مضطرد في الضرائب والرسوم واسعار الخدمات بما فيها الكهرباء التي ارتفعت فجأة في بعض المجمعات السكنية الحديثة لأكثر من عشرة اضعاف.

ووسط حمى التضخم وارتفاع سعر الدولار مقابل الدينار، وبينما تحصي الأحزاب أرباح شركاتها وتوسع استثمارتها الاحتكارية لتفرز طبقة مخملية في الاقليم، يكافح متوسطو الدخل لتأمين حاجاتهم الأساسية وعيونهم ترنو الى بغداد، عل البشارات تأتي باطلاق تخصيصات الموازنة التي دخلت أروقة التصفيات السياسية، وعل روح المساواة تحرك ركود رواتبهم الثابتة منذ نحو عشر سنوات نتيجة ايقاف الترفيعات والعلاوات الوظيفية. ايقافات خارج القانون ابتدعتها الحكومة الكردية السابقة واصرت عليها الحكومة الجديدة. 

المؤسسات التي لم تؤسس

لم تبق من الاحلام الكردية الكبرى التي ولدت بعد نيسان 2003 وكبرت خلال عشر سنوات، الكثير، ضاعت بعضها بعد 2014 والانهيارات الأمنية التي كشفت كوارث الجيوش الحزبية، وتبخرت جلها حين فشلت خطط الاستقلال الاقتصادي عبر مبيعات النفط والغاز المستقلة، وخنقت وقائع الأرض والجغرافيا ومصالح الكبار، الى جانب سوء التخطيط والتوقيت والحسابات السياسية الخاطئة، استفتاء تقريرالمصير.

ومعه فقد القادة الكرد مفاتيح أبواب مسارات “صناعة الملوك” التي امتلكوها طوال ثلاث حكومات عراقية،  وضيعوها في جولات معارك المناصب والامتيازات والمصالح الحزبية في بغداد واربيل التي افرزت سياسات العمل الممنهج لتدمير المؤسسات ومعه أسس الاقليم الدستوري.

رسخ الحزبان الكرديان الحاكمان (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني) باصرار أعمى، نظام الادارة الحزبية بالمناصفة، والسياسات الاقتصادية المبنية على الامتيازات الحزبية والولائية، الى جانب تثبيت قوائم منظومة الفساد بترسيخ تحالف كبار مسؤولي الاحزاب والشركات، في ظل غياب المحاسبة القانونية، وانهيار أسس العدالة والمساواة، والحقوق على اساس المواطنة.

انهيارات حولت الكثير من الاحلام الكردية الى كوابيس، حين رفعت من مقامات جوقات المطبلين والمتسلقين، ودفعت الكردي القومي المناضل المضحي كما المهني الاكاديمي الى زاوية النسيان والاهمال والندم، لتخفت الرؤى بدولة الخلاص القومية، ويتراجع الشعور القومي لدى الفرد الكردي بكل ما يحمله ذلك من انعكاسات على ثقافته وسلوكه.

حدث ذلك في ظل انقسام متزايد داخل المجتمع الكردي وبنحو غير مسبوق، انقسام افرز اقلية متخمة الثراء وغير انتاجية، وغالبية “متوسطة الدخل” استهلاكية تقترب من حافة الفقر رغم الموارد وفرص التنمية المتاحة في مجالات الزراعة والسياحة وحتى بعض الصناعات.

خلال ثلاثين سنة من الحكم الكردي المدفوع بالمشاعر القومية القوية تحول المجتمع الكردي الى فئتين، الأولى لها دور حضانتها ومدارسها وجامعاتها الخاصة الناطقة بالانكليزية بأبنيتها الأنيقة التي تحمل اسماء عالمية، وحتى فرص التعيين المسبقة. والثانية التي تشكل الغالبية العظمى من أبناء الاقليم لها مدارس الحكومة الفقيرة بأبنيتها وكوادرها، ولها جامعاتها الحكومية التي تفتقد أسس ووسائل التطوير، والتي تخرج أفواج العاطلين عن العمل.

وبعد ان كان كل ابناء المجتمع يتلقون العلاج في ذات مستشفيات الدولة ويقصدون ذات الأسواق، وذات المطاعم والمتنزهات، ويلتقون في ذات الأروقة الثقافية والفكرية وفي قاعات ذات الفنادق، أصبح لكل عوالمه الخاصة التي لا تتلاقى ربما الا في المهرجانات الاستعراضية او صالات تقديم العزاء.

الاعترافات والانجازات الفوقية

بعد سنوات من تقارير ومقالات المديح والثناء، تنهال الانتقادات اليوم أينما حللت في كردستان، من اروقة النخب السياسية والاكاديمية الى بسطات العمال مرورا بصغار التجار والكسبة، ويطال الهجوم روح وصميم ايديلوجية الاحزاب الكبيرة التي نشأت وبنت هياكلها ورفعت أمجادها على تضحيات عشرات آلاف من النخب كما البسطاء المندفعين بقوة المشاعر القومية.

بعد ثلاثين سنة من الحكم الكردي، لم تعد قصور صدام على قمم جبال “كارة” هي رمز الفساد والنخب الحاكمة المنعزلة عن المحيط، فقد انتشرت عشرات القصور على قممم الجبال. قصور تحيطها مزارع مسيجة تضاهي في تفاصيلها واحيانا مساحتها قصور زعماء الأمس. قصور تعود لمسؤولين كبار وصغار ظهروا في زمن فرز المجتمع الى منتمي ولامنتمي، في زمن الامتيازات الكردية.

معظم ما كان يكتبه مراقبون، وتتناقله نخب كردية قبل نحو عشر سنوات، بشأن مؤشرات تراجع وضع اقليم كردستان (السياسي والاقتصادي والاداري)، اليوم يتردد صداه في دواوين المسؤولين الحزبين، فهم يعترفون في لحظات صدق نادرة بالاخفاقات وبالخسارات الكبرى، قبل ان يستدركوا مشيرين مجددا الى “لوائح الانجازات الفوقية” في الابراج القائمة ومراكز التسوق ومنتجعات الخمس نجوم وبعض شبكات الطرق الحديثة، ومحملين جوانب الفشل الى “الأعداء المتربصين”.

تلك الخسارات التي جاءت نتيجة طبيعية للقراءات الخاطئة لقادة الاقليم وجيوش مستشاريهم المتحزبين. القراءات والرؤى التي كانت غارقة في النظرة الاحادية، ومتشبعة الى حد الخدر بأوهام القوة وخيالات الانجازات التي ظلت في غالبها فوقية ولم تتبلور في البنية الانتاجية الاقتصادية والمعرفية والثقافية.

الأسوأ لم يأت بعد 

الأكثر احباطا في أوضاع اقليم كردستان لم يأت بعد، هو في الطريق، هذا ما تخبرنا به القراءات الدقيقة للواقع السياسي والاقتصادي والاداري.

فبعد كل الانتكاسات، لم يتغير شيء في رؤية الحزبين الكرديين الحاكمين، تخطيطا وتنفيذا!

ووفق جل المعطيات عن تحركات الحزبين صاحبي السلطة والقرار، لا أمل بأي اصلاح معلن، فالمراجعات الحقيقية غائبة تماما، والمحاسبة معدومة، والخطوات التصحيحية مغيبة، والشعارات والاتهامات هي الحاكمة وأوهام القوة مازالت هي القائدة. 

الحزب الديمقراطي يستخدم أدوات القرون الفائتة للتواصل، واطلاق برامج التصحيح، التي تدشن بلقاءات جماهيرية تحشيدية استعراضية ، تتعالى فيها الخطابات القومية وتتخللها شكاوى شخصية، وأوراق ومغلفات ورسائل عتب ترفع للقائد. برامج تبدأ بوعود وتنتهي بوعود.

والاتحاد الوطني يستخدم آليات الأنظمة الدكتاتورية ويكرس سياسات الفرد الواحد لإعادة بنائه الحزبي ويمضي لمؤتمر حزبي جديد بلا جديد. يتحدث قادته عن المؤسسات ووحدة الصف وأهمية مواجهة المشكلات ويتركونها تكبر الى حد الانفجار. تمرر قيادته رسائل حب وود لجمهورها، وتتجاهل مطالبه حد التغييب. يؤكدون على قوة التعددية ويرفضون كل رأي مغاير، يشددون على الاصلاح ويهربون منه او يتهربون.

أحزاب تقول انها تبحث عن الاصلاح، لكن كل آلياتها وأدواتها تتقاطع مع أسس وجوهر الاصلاح! أحزاب “التهمت” بكل اصرار “المؤسسات الجامعة” والنقابات والاتحادات والمنظمات، ووجهت لها ضربات قاضية، وضيقت على الاعلام الحر، وأغلقت آذانها وعيونها عن وسائل الوصول الى الحقائق، ووسائل التواصل مع الجمهور الحقيقي وليس الأعضاء المستفيدين المبرمجين على “النعم والتهليل”.

أحزاب تقول ان لا خلاص إلا بوحدة الموقف، لكنها تكيل لمعارضيها  الاتهامات، وتقرر منفردة باسم الكل وتتحرك منفردة حتى في المسائل الكبرى، وتذهب في كل مرة بالاتجاه الآخر، فتحشد لمهرجانات الولاء، لتطرب على صدى تصفيقات جمهورها.

أحزاب تقول انها تريد تصحيح الأوضاع، لكنها لا تقبل بغير الحزبي المنتمي لها “مواطنا كامل الحقوق”.

أحزاب تقول انها تريد بناء وطن ودولة، لكنها حولت الوطن الى مربعات وخانات امتيازات حزبية ولائية مطلقة، لا حقوق لمن لم ينتم اليها.

أحزاب بشعارات قومية تقدمية، لكنها ترفض ان يكون أي مواطن فردا في البيشمركة، اذا لم يكن من متحزبيها.

أحزاب تتغنى بالمصلحة العليا وتصر على التقسيمات الحزبية، في جسد الجيش والأمن والداخلية وحتى المالية.

أحزاب بخطابات ليبرالية تتشبث وفق منطق التزكيات الحزبية، باحتكار أعلى كما أدنى وأصغر المواقع الوظيفية، وتحرمها على الآخرين، ضاربة كل أسس الاستحقاق والكفاءة والنزاهة.

أحزاب تتحدث عن التطور العلمي، لكن أبواب إدارات مؤسساتها الأكاديمية محكمة بأقفال الولاءات الحزبية.

أحزاب تتحدث عن الوطن، وعن صوت المواطن، وحق المواطن، لكنها تنتهك ذاته وتصادر وجوده وتتلاعب بمستقبله، تحت ايقاع الحزبية، ثم تنتظر انجازات.

وحين تأتي بدلا عنها الانتكاسات، ويغرق الاقليم في أزماته، ويضعف كيانه الدستوري، ويتراجع تأثيره ودوره، ويخفت صوته في بغداد الى حد تجاوز حقوقه والغاء عقود الشراكات في الدولة، واتفاقات ادارة الحكومات، تصرخ الأحزاب: انها مؤامرات داخلية اقليمية دولية كونية!

أقرأ أيضا