بعد مرور 107 اعوام: خمسة دروس نتعلمها من إحياء ذكرى الإبادة الارمنية

تبرز مخاوف جديدة في بلدان الشرق الأوسط من إزاحة الأزمة الجيوسياسية في أوكرانيا  2022 إهتمام المجتمع الدولي عن شواغلهم وتحدياتهم. بالمثل هناك مخاوف أرمنية من أن قضية الإبادة الجماعية للآرمن ، والتي تصاعد الإهتمام الدولي بها على نحو غير مسبوق منذ احياء الذكرى المئوية عام 2015 سوف تتراجع الى كواليس المسرح الدولي.

 

ففي  24 نيسان 2015 ، أحيا الملايين في  العديد من  أنحاء العالم الذكرى المئوية لوفاة أكثر من مليون أرمني.  واصبحت كلا من السردية التركية والارمنية موضع جدل ساخن، ففي حين يعيد الارمن احياء  ذكرى الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية. تفسر تركيا  الحدث انه مجرد عارض للحرب كان فيه الضحايا عرضا جانبيا مؤسفا لحرب أهلية شرسة ، وما زالت تركيا حتى يومنا هذا ترفض الاعتراف بالأحداث على أنها تشكل إبادة جماعية.

 

أصبحت هاتان السرديتان موضع انقسام متزايد خلال السنوات الماضية، ومع إن برلمانات اوربية وحتى عربية صوتت  للاعتراف بالإبادة الجماعية ، لكن  العديد من الدول (من ضمنها الدول الكبرى)  اغفلت القضية خوفا من تنفير حليفهما في الناتو بالنسبة لدول الغرب الاطلسي او لإعتبارات  ثقافية وتاريخية بالنسبة لبعض البلدان العربية والاسلامية.

 

بالنسبة للباحثين والنخب الأكاديمية في العديد من بلدان الشرق الأوسط فإن استخلاص الدروس من قضية الأعتراف الدولي بالإبادة الجماعية يعد أمرا محفزا لقراءة الحاضر في ضوء تعقيدات الماضي، فدراسة الشتات الارمني قد تصبح مرجعية لدراسة الشتات العراقي والسوري واللبناني على سبيل المثال.

 

 طور الشتات الارمني في جميع أنحاء العالم  مراكز اجتماعية وسياسية وثقافية وأيديولوجية وكنسية ديناميكية. وأعادوا تموضعهم الخطابي والوجودي داخل العديد من بلدان الشرق الأوسط المستقلة حديثًا مثل العراق وسوريا ولبنان ومصر، كما في بلدان الشتات الاوربي والولايات المتحدة. وتوضح عملية كتابة تاريخ جديد للارمن في فترة ما بعد الإبادة الجماعية انه لم يكن تاريخًا من الضياع والغياب والتشتت.

 

بالمثل يمكن لنا ان نبدأ بتدوين تاريخ الشتات الشرق اوسطي في العالم بوصفه كذلك ايضا. هذا درس أول نتعلمه.

 

من جهة ثانية، كانت التحولات الجيوسياسية بعد الربيع العربي وظهور داعش محفزة لقراءة التاريخ في ضوء اطروحة الإستمرارية، أي قراءته خارج التحديد الحدثي وضرورة سحبه الى منطق الزمن البنيوي او الآمد الطويل اذا استخدمنا منهج المؤرخ الفرنسي (بروديل) في كتابه العظيم (البحر المتوسط).

 

بعبارة أخرى فإن بحث التحولات الاجتماعية  التي أحدثها تدمير العراق وسوريا على سبيل المثال وتأثيرها على حياة الأرمن في كلا البلدين يبين أن تأثير الإبادة الجماعية للارمن ما يزال مستمرا على الرغم من مرور أكثر من قرن على الإبادة الجماعية.

 

بدأ العديد من ممثلي الاقليات الدينية التي تعرضت الى تطهير عرقي وإبادة جماعية على يد تنظيم داعش ينظرون إلى مأساتهم المعاصرة على أنها  ذات صلة مباشرة بالماضي وتعيد إنتاج الذكريات المرتبطة بالإبادة الجماعية للأرمن  (الإيزيديون في سنجار والمسيحيون في سهل نينوى مثلا)، وكذلك على الجانب الاخر من الحدود في سوريا، بدأ العديد من السوريين الارمن وممثلي الاقليات الدينية السورية يفسرون التورط المعاصر لتركيا في الحرب السورية على أنه محاولة للسيطرة على الوجود الأرمني في سوريا وعلى خريطة اقليات اخرى كانت في زمن مضى تحت النفوذ العثماني.

 

يضرب الارمن السوريون امثلة اكثر مباشرة مثل قصف المواقع التاريخية الأرمنية خلال إحياء ذكرى 24 نيسان في مدينة دير الزور شرقي سوريا ، التحول  من تدمير الثقافة المادية للأرمن السوريين إلى محاولة تدمير المجتمع الأرمني في حلب الحضرية الخ تترك أكثر من دلالة عميقة على الاستمرارية.  هذا درس ثان.

 

النقطة الثالثة التي يمكن ملاحظتها أو قياسها عبر الآمد  الزمني الطويل هي كيفية تعامل الأجيال المختلفة مع قضية الإبادة الجماعية منذ عشرينيات القرن الماضي حتى فشل البروتوكولات التي وقعتها أرمينيا وتركيا المستقلة في عام 2010. من يقرأ تاريخ الانقسامات والخلافات بين أرمن الشتات المؤيدين والمعارضين للاتحاد السوفيتي  قبل وخلال الحرب الباردة، والتي وصلت ذروتها إلى أعمال عنف توجت بمقتل رئيس أساقفة في عام 1933 تدق ناقوس الخطر على مجتمعات ما بعد الابادة الجماعية في العراق وسوريا وضرورة العمل على إعادة تأهيل مجتمع ما بعد الإبادة وعدم تركه نهبا لتوظيف سياسي داخلي أو اقليمي او دولي.

 

على النخب والاجيال الجديدة التي تمثل مجتمعات ما بعد الإبادة الجماعية التحلي بالشعور بالمسؤولية ومناهضة اضفاء طابع انقسامي على الخطاب او سياسة انتاج أو إعادة انتاج الهوية او الاستسلام للاجندات السياسية  للصراع الجيوسياسي بين دول الاقليم او بين الولايات المتحدة وايران وتركيا من جهة ثانية.

 

عدا هذه المخاوف التي تترك لنا فيها إبادة الارمن درسا بليغا فإن معظم مخاوفنا مبالغ بها حين نتحدث عن انقراض الثقافات او اختفاء الجماعات، لنضرب مثالا أخر في السياق الارمني : في إحياء مذهل للتاريخ الشفوي ، بدأ أحفاد عشرات الآلاف من “الأرمن الإسلاميين” ، الذين ظلوا في الظل منذ عام 1915 ، في الظهور واستعادة هوياتهم. وهذا درس ثالث.

 

النقطة الرابعة التي أود إثارتها تتعلق بالإنكار، إذ ما تزال الدولة التركية تنفي حدوث الإبادة الجماعية رسميًا. في كتابها (إنكار العنف: الماضي العثماني ، والحاضر التركي ، والعنف الجماعي ضد الأرمن ، 1789-2009)  تسعى الباحثة (فاطمة موج جوتشيك) إلى فك جذور التنصل التركي من الإبادة الجماعية. جادلت  فاطمة بأن الإنكار يمثل عملية تاريخية متعددة الطبقات تتكون من أربعة مكونات متميزة ولكنها متداخلة: العناصر الهيكلية للعنف الجماعي والحداثة في جانب واحد ، والعناصر العاطفية للعواطف الجماعية وإضفاء الشرعية على الأحداث من ناحية أخرى. في الحالة التركية ، ظهر الإنكار من خلال أربع مراحل: (1) الإنكار الإمبراطوري الأولي لأصول العنف الجماعي المرتكب ضد الأرمن والذي بدأ عام 1789 واستمر حتى عام 1907 ؛ (2) إنكار الفتاة التركية لأعمال العنف التي استمرت لعقد من عام 1908 إلى عام 1918 ؛ (3) حدث الإنكار الجمهوري المبكر لممثلي العنف من عام 1919 إلى عام 1973 ؛ (4) بدأ الإنكار الجمهوري الراحل للمسؤولية عن العنف الجماعي في عام 1974 وما زال مستمراً حتى اليوم. ولكن ما قد لا تراه الباحثة فاطمة وغيرها من المتشائمين أن ما يغير التاريخ لا نلاحظه على سطح الأحداث، إنما في أعمق  ذاكرة الشعوب، وإن العدالة ستتحقق في النهاية حتى لو تأخرت أكثر من مائة عام.

 

ختاما فإن  تطورالأعتراف بالإبادة  الجماعية يصبح مرآة لإهمية وفعالية عدم النسيان بالرغم من كل ديناميات الإنكار والمصالح الدولية، فقد اعترفت اكثر من ثلاثين دولة رسميًا بالابادة الجماعية للأرمن، فضلا عن إن هناك دولا تعدت ذلك الى الى تبني تشريعات  تنص على تجريم انكار الابادة الأرمنية، كما إن عدد الدول التي اعترفت بالابادة الجماعية للأرمن في تزايد عاما بعد اخر، ففي العام الماضي اعترفت مجلس نواب جمهورية لاتفيا بالابادة  الأرمنية وكذلك اعترف الرئيس الأمريكي (جو بايدن ) بصورة رسمية واستخدم كلمة الابادة خلال كلمته التي وجهها الى الشعب الأرمني، وكلنت لبنان وسوريا ضمن الدول العربية التي اعترفت بالابادة  الجماعية، ومع إن العلاقات العراقية الآرمنية في تطور مستمر فإن الحكومة الآرمنية لم تتعمد إثارة قضية اعتراف العراق بالإبادة الجماعية للأرمن كشرط لاقامة هذه العلاقات وتطويرها، لكن من جهة ثانية تبرز مطالب من قبل أرمن العراق للاعتراف في هذا السياق.

 

وحسب مصادر أرمنية رسمية فإن هناك قدرا من الارتياح من قبل الجانب الارمني لدعم وأحترام الارمن العراقيين في البلاد، ولا سيما دعم الحكومة العراقية وحكومة اقليم كوردستان العراق لتشييد وزيادة الكنائس الأرمنية (مثل تشييد كنيسة القديس ساركيس في دهوك عام 2009 وتشييد كنيسة الصليب المقدس في اربيل عام 2019). وهناك-حسب هذه المصادر- مستوى عال من الحوار السياسي بين البلدين، فضلا عن الوصول الى تطورات إيجابية في مجال التعاون الاقتصادي والتجاري، ففي السنوات الأخيرة  أصبح من الممكن تحقيق مؤشرات تجارية واقتصادية جيدة. وشهد عام  2020  بداية مهمة للتعاون بين الجامعات  بين البلدين، إذ تم توقيع مذكرة تفاهم  بين جامعة  يريفان الحكومية وجامعة دهوك والمتضمنة  مجالات التعاون المتعددة.

أقرأ أيضا