حرب تحرير العراق من مقاولي الكراهيات 

 

بعد حرب تحرير البلاد من داعش، بدأت حرب أشد ضراوة، داخل العقول والقلوب، يخوضها “صناع السلام” ضد توأم (أمراء الفساد ومقاولي الكراهيات)، حرب لتحرير البلاد من الكراهيات وبزنس الطائفية.

تنبهت مؤسسة مسارات لهذه الحرب الموازية لحرب تحرير العراق من داعش، فأطلقت عام 2016 (إعلان بغداد لمواجهة خطابات الكراهية في العراق والشرق الأوسط)، وأجرت مسحا وطنيا عام 2017 لقياس تأثير الكراهية والفاعلين الأساسيين ومصادرها من (مقاولي الكراهية)، وأطلقت عام 2018 (المركز الوطني لمواجهة خطابات الكراهية في العراق) لرصد وتحليل الكراهيات وتصميم سياسات لمواجهتها.

وفي الدراسة التي نشرتها مسارات نهاية عام 2018 تحت عنوان (مواجهة خطابات الكراهية) يتضح أن رجال الدين يسهمون بنسبة 43% من خطابات الكراهية، في حين بلغت نسبة السياسيين 42%. ويتلقى المواطن العراقي حصة يومية من خطابات الكراهية، بلغت 37 رسالة يوميا، تتصاعد في أوقات الأزمات لتصل الى 76 رسالة كراهية يوميا.

لم تتوقف هذه الرسائل طوال الفترة الماضية، والغريب أن تكرارها على نحو متواتر من قبل النخب الدينية والسياسية مثل (مفتي الجمهورية، رئيس ديوان الأوقاف الشيعية، رئيس اساقفة السريان الكاثوليك، رئيس وفد الحكومة العراقية في جنيف الخ)، وفي أوقات تشهد استقرار نسبيا، يلقي الضوء على عمق الأزمة التي يمر بها المجتمع العراقي، وعجز الدولة (الحكومة، البرلمان، القضاء) عن مواجهتها، بسبب طبيعة الفاعلين فيها، والذين هم جزء من بنية السلطة الإجتماعية السياسية (السياسيون، رجال الدين).

مراجعة لأبرز الأمثلة

تكرار مثل هذه الخطابات وتنوعها ما بين دينية (إسلامية/ مسيحية، إسلامية/ إيزيدية) أو قومية (كردية/ عربية، تركمانية/ كردية)، وما بين الأقليات (مسيحية/ شبكية)، والأزمات الناجمة عنها يستحق وقفة جادة من النخب الدينية والسياسية والمدنية، وتحمل مسؤوليتها تجاه المجتمع الذي تضعف تماسكه مثل هذه الخطابات الهدامة.

وفضلا عن فتوى المفتي في عدم جواز احتفال المسلم بكريسمس، فإن أبرز الأمثلة التي أثارت صدى واسعا في الفترة الماضية:

1- تسريب فيديو لرئيس ديوان الوقف الشيعي في العراق  لدرس فقهي عن الجهاد ضد غير المسلمين، والتي عبّر من خلاله عن رأيه الفقهي بشأن الخيارات الثلاثة المتاحة أمام غير المسلمين: الجهاد معهم او دخولهم للاسلام او قبولهم دفع الجزية إن كانوا من أهل الكتاب حصراً. وايضا الفديو الذي يهاجم فيه المحتفلين بالكريسمس ويصفهم بممارسة المجون .

2-تصريح نائب وزير العدل العراقي، بإن البهائية ليست دينا أو معتقدا، أثناء نظر لجنة القضاء على التمييز العنصري في التقرير الدوري رقم 22ـ25 للعراق بشأن التدابير المتخذة لتنفيذ أحكام الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري. وبين المسؤول رفيع المستوى تمسك حكومته بما صدر من تشريع حزب البعث لحظر البهائية لعام 1970 مبينا أن المجتمع العراقي مسلم، ولا يمكن تجاوز ثوابت الإسلام اثناء سن تشريعات جديدة.

3- ورود عبارات في كتابيّ التربية الإسلامية للصف الأول الابتدائي والخامس الاعدادي عبارات تحض على الكراهية ضد غير المسلمين (اليهود والمسيحييين)، وغير المحجبات، وعلى نحو أثار غضبا واسع النطاق بين النخب الدينية المسيحية ووسائل التواصل الأجتماعي.

4- وصف المطران “يوحنا بطرس موشي” رئيس اساقفة السريان الكاثوليك في الموصل وكركوك وكردستان (خلال استقبال مسؤول الفاتيكان الرفيع في قرقوش) جيران المسيحيين بالدواعش، واتهامهم بالأستحواذ على اراضي المسيحيين ومنافستهم في مناصبهم وأعمالهم (فهم  أفراد المكون الشبكي الخطاب بكونه أشارة صريحة لهم، على خلفية خطابات الكراهية المسيحية/ الشبكية). 

تحليل سريع

يتضح من رصد هذه الخطابات، إن  تشكيل الكراهيات وتغذيتها وتعهدها وتوجيهها غالبا ما يتم على يد أفراد بعينهم (مقاولو الكراهية) أو مجموعات معينة ضد أفراد وطوائف أخرى تختلف في الإثنية أو اللغة أو الدين،  وعادة ما يكون ذلك لأسباب سياسية أو بسبب تمييز راسخ طويل الأمد (منهجي). ولسوء الحظ، في حالة العراق، يمكن لرسائل الكراهية أن تأتي على أرض خصبة حيث توجد مشاكل اجتماعية و اقتصادية و سياسية أوسع نطاقاً وانقسامات في المجتمع تبعا لهذه المشاكل. لذا، لا يمكن معالجتها على نحو جذري او الحد منها واحتواءها دون  فهمها بشكل أفضل، وضمن سياق اشمل للنزاع بين الجماعات الأكبر (الأكراد، الشيعة، السنة)، وبين الأقليات وهذه الجماعات الأكبر من ناحية ثانية.

وعادة ما تنبع الكراهية من عيوب مجتمعية أوسع نطاقاً، من بينها انعدام إمكانية الحصول على الموارد أو عدم العدالة في توفيرها؛  والصراع على الأرض (سهل نينوى، سنجار، كركوك)، والتحيز السياسي؛ والفساد؛ وأوجه النقص في الحكم الرشيد، ووجود تحيز ومحاباة بشكل حقيقي أو متصور بسبب الخلفية الدينية أو الإثنية و الطائفية أيضا، ما يعمق انعدام الثقة والشكوك والغضب.

ومن الواضح تماما، إنه عندما يسود الحكم الجامع والمساواة وحقوق الإنسان، وعندما تضع المجتمعات ثقتها في قياداتها، نجد قدراً أقل من التصدع في المجتمع، وما خطاب الكراهية في غالب الأحيان من قبل المقاولين والمتعهدين سوى (بزنس) يهدف الى تجسير هوة عدم الثقة بين تجار الكراهية والزبائن (الأتباع من الأفراد)، ومحاولة لإسترداد/أوالحفاظ على الولاء (ومن ثم الأصوات الأنتخابية/التبرعات/الضرائب الدينية) من خلال توجيه الأنظار عن عيوب أوسع نطاقا، وتصريف طاقة وانتباه الجمهور عن المسآلة (مسآلة السلطة أيا كانت، دينية أو سياسية)، لكي ينحرف مسارها  الطبيعي نحو الآخر، ومن ثم تتبدد في حفرة الكراهيات العميقة وتتلاشى.

مع ذلك، وبشأن الأزمة الراهنة، فإن ردود الفعل القوية والحازمة من المجتمع المدني ووسائل التواصل الإجتماعي بينت مقدار (القوة الرقمية الأخلاقية) التي يمتلكها المجتمع المدني، بوسائل وأدوات تمثل سلطة لا يستهان بها، سلطة معنوية توازي سلطة الدولة الفعلية، وتعوض عن فراغها. وكنت قد شاركت يوم أمس في احتفال للسكان المسلمين في ضواحي مختلفة من بغداد في كنيسة ماركوركيس للكلدان، وكنت شاهدا على مقدار الحزم الشعبي في مواجهة هذه الخطابات في تكوين عفوي لـ(حركة مناهضة لخطاب الكراهية من أسفل الى أعلى)، فضلا عن متابعتي لعشرات الناشطين في المحافظات ممن أجريت معهم أتصالات لتنسيق مبادرات مماثلة.

مع ذلك، ينبغي أن نكون حذرين في إستعمال أدوات ووسائل الحرب الرقمية، فقد تتحول ردود الفعل في وسائل التواصل الإجتماعي الى مجرد قناة تصريف للغضب من دون وجود  ناظم وعاصم من التشتت، كما لا يمكن أن نفترض إن جميع مستخدمي الفضاء الإفتراضي حكماء او ذوي مسؤولية،  بل كثيرا ما ينخرط الفاعلون فيه في بث خطابات كراهية او التسويق لها عن قصد أو حسن نية، فقد كان الإنتشار الهائل لخطاب المفتي من قبل مستخدمي فيس بوك وتويتر وانستغرام نوعا من التسويق الهائل للخطاب، وعلى نحو “عملق” تأثيره، ونقله من باحة المسجد الى فضاء المجتمع الواسع.

بناء على النقطة السابقة، ينبغي التفكير في إحداث توازن مطلوب بين العقاب الشعبي والتسويق المجاني للكراهية، وعادة ما يستثمر (مقاولو الكراهيات) من النخب الدينية والسياسية، وعلى نحو إنتهازي، هذا الإهتمام ليظلوا محل أهتمام وجذب إعلامي دائم على مسرح الأحداث.  وتستخدم  الاستراتيجية عينها من قبل العديد من الفاعلين الافتراضيين (الناشطين) في مجال الكراهية لتبرير أطروحاتهم حول الكراهية المضادة بوصفها رد فعل طبيعي دفاعي (أكرهه لإنه يكرهني).

وفي هذه الحرب، فإن الحلقة الضعيفة، هي الجمهور السلبي،( ينبغي أن نكسبه الى صفنا) إذ إن أسهل خيار في هذه الحرب هو تبرير الكسل الأخلاقي وإنعدام المسؤولية، (إنظر إنه مكان غير صالح للعيش، لا تلمني  أذا  هاجرت من هذا المكان القذر، ليس هناك ضوء في نهاية  النفق)، مع إن التحدي هنا، يكمن في كيفية مواجهة خطاب ومقاولي الكراهيات لا الهرب من ذخيرتهم التي تنمو في انعدام المبالاة والكسل الأخلاقي، وبالطبع في النقد غير المنتج والتشاؤم الإنتهازي.

ما العمل ؟

1-الإرادة السياسية: أعتقد إن التحدي الأول الذي يواجهنا يتمثل بغياب إلإرادة السياسية، فالحاجة الى إرادة سياسية حازمة تجاه هذه الخطابات أساسية، ومن دون ذلك لا يمكن التحكم بهذه الخطابات أو ضبطها، لا سيما خطب رجال الدين، ولنا في المثال المغربي أسوة حسنة، فقد كان من تعبيرات الإصلاح في الحقل الديني، توقيع ملك المغرب مرسومًا ملكيًّا، يمنع بموجبه الأئمة والخطباء وجميع المشتغلين في المهام الدينية، من ممارسة أي نشاط سياسي. ويمكن أيضا الاستشهاد  بتجربة سلطنة عمان التي تتعامل بحزم مع أي خطاب كراهية، إذ يتعرض الفرد في حال بثه خطابات كراهية لعقوبات بموجب القانون الأساسي للدولة، ويعد التحريض على الكراهية جناية يعاقب  بموجبها الفرد بالسجن لمدة تصل إلى عشر سنوات. ولهذا الحزم أثره الإجتماعي والديني والثقافي الذي جعل من  سلطنة عمان الدولة الوحيدة في العالم العربي التي لم ينضم أي أحد من أبنائها إلى صفوف داعش.

2-مسؤولية المؤسسة الدينية:  على  المؤسسات الدينية  أن تكون أكثر وضوحا وشجاعة في مراجعة التراث الديني وغربلته، واذا لم تدفع لحظة “داعش” في كشفها ورقة التوت عن عقم التفسيرات للنصوص المقدسة وتجاوز التاريخ الراهن لها، فلن تمر لحظة دافعة اخرى، وتضيع الفرصة السانحة. ومن مصلحة النخب الدينية في عالم ما بعد داعش أن تنفي عنها الصورة النمطية بأنها تتاجر بالكراهية لإسباب ذات صلة بتأكيد سلطتها ومصالحها “بزنسها”، وان محور اهتمامها ليس الانسان، وليس “عبادة الله” بالتأكيد، بل نفي “الأخر المختلف” وتعيين حدود ثقافية بينه وبين الأنا في سبيل خلق هوية حصرية “مثلية” تمركز “الولاء” ومنافعه المادية. وفي هذا السياق أثير الإنتباه لثلاثة وثائق أساسية يمكن أن تكون منطلقا لمراجعة إصلاحية في العالم الإسلامي، هي : رسالة عمان 2004، إعلان مراكش لحماية الأقليات الدينية في العالم الإسلامي 2016، إعلان الأزهر عن المواطنة والعيش المشترك 2017. أما في السياق العراقي، فأود جذب الانتباه الى وثيقة مؤسسة مسارات : إعلان بغداد لمواجهة خطابات الكراهية في العراق والشرق الأوسط 2016.

3– إعادة بناء الثقة : على الحكومة الاتحادية و حكومة اقليم كردستان استعادة ثقة المجتمعات المحلية الساخطة حتى تتولى حصة من إدارة الشؤون الخاصة بها وتثق في قدرة الدولة على حمايتها من العنف، وتحقيق العدالة وتهيئة الظروف من أجل مشاركتها العادلة في المجتمع، وفصل قضية حماية الاقليات عن الصراع السياسي بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كردستان على المناطق المتنازع عليها، والغاء التشريعات التي تكرس التمييز او تضطهد الاقليات، والاعتراف بالإقليات التي لم يرد ذكرها في الدستور، والغاء جميع التشريعات الموروثة من زمن البعث والتي تتعارض مع الحقوق الواردة في الدستور. وفي هذا السياق أود جذب الإنتباه الى عمل مؤسسة مسارات في هذا السياق، وخريطة الطريق التي قدمتها في  “إعلان إعادة بناء الثقة في المناطق المحررة من تنظيم داعش 2017″.

4-بيئة قانونية مناسبة: ما زلنا نفتقر إلى قوانين محلية لمكافحة التمييز وخطاب الكراهية، وحتى مع وجود مواد في تشريعات أخرى ذات صفة عقابية، فإنه غالباً ما يتسم تنفيذ القانون بالضعف وتقل القضايا المعروضة على المحاكم. لذا، فإن من أبرز مهام المجتمع المدني والبرلمان في المدة المقبلة العمل على سن هذه التشريعات وإنفاذ ما سن منها.

5-تعددية وسائط الإعلام: تعد تعددية وسائط الإعلام أمراً أساسياً لتوفير المعلومات بشكل مستقل وموضوعي حيث تعرض آراء مختلفة. ولا يشير تنوع وسائط الإعلام إلى التباين بينها فحسب، بل أيضاً إلى إمكانية وصول الفئات السكانية كافة إليها ووجود تعددية في وجهات النظر بها. وعدم تمثيل بعض الفئات السكانية بالقدر الكافي في وسائط الإعلام يعني غياب صوتها وتأثيرها في مواجهة التعبيرات السلبية، ويؤدي الى شللها في مواجهة خطابات الكراهية وقدرة المجتمع الأوسع على تكوين رأي صحيح.

6- المبادرات المدنية:  اعتقد إن دور الناشطين المدنيين من صناع السلام محوري لإطفاء الحرائق المفتعلة من مقاولي الكراهيات،  ومن أبرز الأمثلة التي كنت وثيق الصلة بها، وكنت شاهدا على تأثيرها في الأعوام الماضية : مبادرة (الوحدة في التنوع) التي أطلقتها مؤسسة مسارات للأحتفال  بالكريسمس، مبادرة شباب (مد الجسور بين مجتمعات نينوى)، مبادرات مجموعات شبابية في النجف الأشرف مثل (فكر بغيرك)، و(موجة)، مبادرة (أوقفوا الكراهيات) لصناع السلام من  مجموعة “شباب بلاد ما بين النهرين”.

7-إشراك فئات أوسع: على الإجراءات والمبادرات لمواجهة خطاب الكراهية والجرائم المرتكبة بدافع الكراهية أن تُشرك ممثلي وزعامات الأغلبية (من صناع السلام)، بما يشمل السياسيين والمثقفين والمشاهير وعامة الناس المنشغلين  بالتمييز والكراهية في مجتمعاتهم، ليضموا صوتهم إلى صوت الأقليات المهمشة والمحرومة في المطالبة بحقوق الإنسان والمساواة والكرامة الإنسانية للجميع، وعلى نحو يخلق تحالفا وطنيا عابرا لمواجهة مقاولي الكراهية.

سعد سلوم: أكاديمي وخبير في شؤون التنوع الديني والاثني في العراق

أقرأ أيضا