فرنسا ورحلة البحث عن موطئ قدم في الشرق الأوسط

أتاح تحول نظام القطبية الصلبة الذي قادته أميركا من العام 1991- 2003، إلى القطبية الأحادية المرنة السماح للقوى الكبرى مشاركة القطب الأعظم (الولايات المتحدة الأمريكية) في تحمل بعض تكاليف الصراع الدولي وأعباء إدارة ملفات بعض الأزمات الدولية بالنيابة أو بموافقته، نموذج السماح للدول الأوربية بتفكيك وإدارة الملف النووي الإيراني.

كيف نقرأ زيارة ماكرون وظهور فرنسا القوي في بعض مناطق مجالها الحيوي في الحقبة الاستعمارية والبحث عن موطئ قدم لها لاستعادة بعض هذا النفوذ بعد حقبة نصف قرن من الاستقلال المزيف الذي عاشته الدول العربية على أثر موجة الاستقلالات في النصف الثاني من القرن المنصرم عادت هذه الدول الى سابق عهدها كمجتمعات فاشلة يمزقها التخلف وتعصف بها الصراعات والانشقاقات نتيجة فشل حكوماتها “الثورية” المتعاقبة في التنمية المجتمعية والاقتصادية والاستثمار البشري والقدرة على صهر هذه المجتمعات لتشكيل هوية وطنية جامعة واليوم تعاني دول القلب العربي من الضعف والوهن والتمزق والحروب الأهلية الأمر الذي لم يعد يغري الدول القوية الاقليمية التقليدية الطامعة في مثلث التنافس- الصراعي المحيطة (الايراني- التركي- الاسرائيلي) الذي بات نفوذه يصول ويجول داخل هذه الدول العربية وفي مقدمتها العراق ولبنان وسوريا والتي بات وضعها يشبه حال الامبراطورية العثمانية اواخر عهدها تنهش جسدها الدول الاوربية القوية حتى سميت (الرجل المريض) يشكل هامش المرونة التي أتاحتها تحولات نظام القطبية الدولية، وضعف ووهن العرب وتمزقهم من جهة أخرى ، إضافة إلى رحلة البحث عن المصالح الاقتصادية، الخلفية التي تفسر التحركات الفرنسية الأخيرة في منطقة الشرق الوسط:

1- تدير فرنسا حاليا أزمة التوتر الذي قد يتطور إلى نزاع بالتحالف مع اليونان وقبرص ودول أخرى للحد من التوسع والنفوذ التركي المحموم شرق المتوسط وفي ليبيا وسوريا وشمال العراق، ويمكن عد زيارة الرئيس الفرنسي في هذا السياق كإشارة لتركيا في إمكانية تطويقها بعلاقات فرنسية عراقية من الجنوب مع إشارة الرئيس الفرنسي بكلمته في بغداد بقيام فرنسا بدعم العراق ضد “تهديد سيادته” وهي إشارة لا تقبل التأويل الى الانتهاكات التركية المتكررة في شمال العراق.

2- تاريخيا كانت الموصل امتداد طبيعي لسوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي قبل استقلال هذه الدول، وبالتالي منذ سنين تقوم فرنسا باستعادة والتواصل مع جذور علاقاتها في الموصل لاسيما ملف إعمارها بعد حقبة داعش، وقد تكثف فرنسا بعد زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون من مبادراتها الثقافية والصحية والعلمية والدبلوماسية وربما يصل الأمر لتواجد قاعدة عسكرية فرنسية في شمال العراق مقابل التدخلات التركية السافرة ودعوات المتكررة في المطالبة بضم الموصل وكركوك.

3- لم تعد الولايات المتحدة بوجهها وتدخلاتها التي باتت مكشوفة عسكريا واحتلاليا مقبولة من قبل شعوب المنطقة بصورة مباشرة، لذا فمن غير المستبعد أن التحرك الفرنسي يأتي في سياق تفاهم وتخويل أمريكي لإدارة ملف لبنان وجزء من ملف العراق من قبل فرنسا حيث تحتفظ بمقبولية معقولة بين شعوب المنطقة لتمرير هذا النمط من الدبلوماسية الشعبية.

4- (قد تحسب هذه النقطة على نظرية المؤامرة) وتتعلق بسعي الغرب وإسرائيل وبعض الدول العربية، تساندها قوى عراقية محلية على تحقيق حلم ومخطط ” دولة كردستان الكبرى” الذي من شأنه تفجير (تركيا وإيران والعراق وسوريا) من الداخل وهناك تعاطف فرنسي معروف تاريخيا مع هذا الملف.      

مدير مركز دجلة للتخطيط الاستراتيجي

أقرأ أيضا