ماذا وراء صمت العالم؟

في هذا الزمن الذي يُنهك الذاكرة بالتسارع الجنوني لأحداثه ومعلوماته، تتبدّد مشاهد الحروب وحكاياتها بموازاة ما يستجد من أحداث أكثر ترويعاً، تطغى على ما قبلها وتزيحه من الذاكرة، وتتشوّش أذهان الناس بتوترات الحاضر التي لا تهدأ، وتوقّع ما هو أسوأ في الأيام التالية.

وصارت دوامات النفوس، المهدّدة ببشاعة الحروب، خطوط متاهة متشابكة تتوه فيها مصائر البشر، وتتغيّر، على مدار الأيام النازفة بدماء الأبرياء، مشاهد الحياة في الأمكنة المستباحة من القتلة.

لقد أصبحت ممارسات القتل الجماعي، وتهديم البيوت على رؤوس ساكنيها، وأرتال المهجّرين في دروب الضياع، مجرّد أخبار عاجلة في أسفل شاشات التلفاز، وومضات برقية على مواقع الشبكة العنكبوتية المتغيّرة على مدار الساعة .

 تضيع دماء البشر، اليوم، وراء ستارة الجدل العقيم بين من يتابعون ذيل الأحداث المقطوع، ويتركون الرؤوس الكثيرة التي تتحكّم فيها على وفق مصالحها الكبرى، حتى صار انعدام التوافق على قرارات موحدّة، تتجاوز طاولة الثرثرات الدبلوماسية الهزيلة، من مهازل سياسة عالمنا اليوم. هذا العالم الذي لم يعد يهتم لقصص الشهود الحقيقيين، ومروياتهم الدامية من قلب الأحداث، ولا يريد ان يسمع أنين جرحى حروبه المجنونة، ولا استغاثة المحاصرين بين لهيب حرائقه التي تتسّع يوماً بعد آخر.

 لقد تحوّلت بشاعات الحروب المروّعة إلى كلمات مكتوبة بأناقة في صفحات ووثائق ساسة العالم الأنذال، يتداولونها باسترخاء في صالات الترف الأممية، في ذات الوقت الذي يُهمد فيه أنين الضحايا المعزولين عن العالم، ويتحوّلون إلى جثثٍ مغبّرة تحت الأنقاض، وتحترق أفواه الاستغاثة بلهيب الحرائق، وكأنّ ما يحدث هو صدى لفراغ بعيد، لا أصوات بشرٍ يحتضرون لوحدهم.

ركامٌ من المدن المهدّمة، وتشريدٌ لمئات الآلاف من البشر على دروب المتاهة، حيث لا يعرفون لهم إتجاهاً أو مكاناً آمناً على خارطة اللهيب. وصار اللامكان عنواناً جديداً لهم تعطّلت أسهم البوصلات في معرفته، وصاروا أشباح بشرٍ ينتشرون مثل نجومٍ خافتة في دخان فضاء الحروب. مخلوقاتٌ مشرّدة تلتحف العراء بصوت الحشرجات، ونشيج الفقدان. مخلوقاتٌ نأت عنها السماء، وأراد هذا العالم المتوحّش أن ينتزع إنسانيتها ويجرّدها من صفات البشر، ليسوّغ لقتلته الاعتقاد بأنها من طينةٍ أخرى، لا يشبهوننا في ملابسهم المتهرئة، ولا في ملامحهم الكالحة من الجوع وغبار بيوتهم التي تهاوت أحجاراً مفتّتة على الأرض، وكذا الحال في حدود المكان السائبة، حيث لم يعد لهم عنوانٌ يدلّ على وجودهم.

لا أدري إن كانت النخب المعولمة الجديدة التي تلاحق رأسمالها خارج حدود الجغرافيا، بعد أن صارت مواضع العمل المحدّدة تضيق على أذرعه الاستهلاكية الاخطبوطية التي تطاول الأرض، وتبحث عن موطئٍ لها في الفضاء، تريد بشراً على نمط حياتها المتنقّلة، ومثل رأسمالها المتحرّك الذي لا يؤمن بحدودٍ للمكان، ويعمل بكل الوسائل على تحطيمها . بشرٌ فائضون عن حاجة أسواقها الباهضة، ولكنهم سيكونون حطباً رخيصاً يُبقي نيران تجار حروبها مشتعلة خارج أسوار أمكنة أمنها العابرة للحدود .

 قد يكون هناك ترابطٌ في المدى العولمي المتخيّل لـ”الحكومة العالمية” التي تؤمّن انسياب حركة رأس المال المعولم في كل مكان، بعد أن يتم تفتيت الهويات الوطنية، وتعددية الثقافات والأديان، عبر إظهار قواها الكامنة على سطح الأحداث، ومن ثم التدّخل لتأجيج الصراعات فيما بينها، واستنزاف فرادة كلّ منها في حروبٍ طويلة الأجل. وربما يكون أحد دوافع  خلق هذه الصراعات، هو من أجل أن يندفع هذا العدد الكبير من شباب المنطقة إلى دول أوربا – حيث انخفاض النسل وقلّة الشباب هناك –  ليكونوا وقوداً للحروب القادمة التي يلوّح صقور اليمين المتطرّف في البيت الأبيض براياتها السود، ويدعمون صعود تيارات لها ذات النهج في تلك الدول. ألم يقل ثعلبهم الماكر كيسنجر “من لم يسمع طبول الحرب العالمية الثالثة فهو أصّم”.  

وحيث نعيش، اليوم، الكثير من جوانب حياتنا على إيقاعات العالم الافتراضي، نسمح لأنفسنا بهكذا فرضيات، ولا نستطيع أن نكبح جماح خيالنا في رسم شتّى السيناريوهات المتماهية مع حجم الكوارث التي تمرّ بها شعوب هذه المنطقة. ولكن ما يطرحه واقع الحال الآن، هو أن النخب المعولمة تحصّن أمنها بقوة أذرع رأسمالها التي تصنع لها هويتها الخاصة في كل مكان . أما الحشود البشرية المهجّرة داخل أوطانها – ومعظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال –  فليس هناك من يؤمّن سلامة وجودها سوى حقول الألغام التي تحيط بها من جميع الجهات . وفي السديم الذي وضعوها فيه، باتت تلك الحشود فائضة عن حاجة المستثمرين لأدوات الحروب المستمرة، وليس هناك ما يمنع، في أخلاقيات الانتماء للمكان، من القضاء عليها عند مصادفتها في حيّز عنّونته القذائف مُلكاً لأرباب السلاح، وعليها أن تعود إلى اللامكان الذي خصّخصّه لها هؤلاء الأرباب، ومرتزقتهم الذين يرتكبون الجرائم بضوء أخضر من صمت العالم.

ظل ما لا يمكن تصديقه واستيعاب غرابة حدوثه، يتكرّر بأشكالٍ أكثر غرابة وبشاعة، في ظل عجز العقول القاصرة عن فهم نوازع الشر الكامنة في النفس البشرية، وصعوبة ترويض اندفاعاتها القاتلة تحت سيطرة وتحكّم قوى الشر الآسرة لتلك العقول، والمتسللّة دائماً من سذاجة تفاؤلها بالخير الحتمي، ومن وهم اعتقادها بأن ” الشيطان ” في  فضاءٍ بعيد، وهو يأتي  ليطرق أبواب الآثمين فقط! وكان لهذه السذاجة دورٌ في تشظي ولاءات شعوب المنطقة بين الطوائف والقبائل والأحزاب، بمسوّغات واهية عن حماية القوة الأقرب لهم – مناطقياً، وطائفياً، وعرقياً – ودعمها بالمريدين والأتباع، وتبرير ما ترتكبه من مجازر ضد جماعات القوى الأخرى . وفي ظل هذه الأوضاع الشاذة، لم يعد مفهوم ” الشعب ” توصيفاً دقيقاً في متوالية هذه الانقسامات المجتمعية التي تتحكّم بها دول خارجية بشكلٍ مباشر، أو بتكليف مرتزقتها المحليين لإدامة ماكنة الثرم البشري، وتخريب آثار وعمران المدن . وباتت الأوطان فِكراً ذائبة على خطوط خرائط مقطّعة الأوصال، وموّزعة على قبائل وجماعات معدّة جيداً لإبادة بعضها.

وصارت الاختّلالات العميقة في بنى مجتمعات المنطقة سبباً لتبرير التدّخلات الخارجية في أذهان الكثيرين من أبناء هذه المجتمعات، حيث لم يعد في ذاكراتهم المعطوبة متسّعٌ لمراجعة المقدمات التي أنتجت كل هذا الدمار في حياتهم . وبعد كل ثرثرات “الأفواه اللامجدية”، وراء شاشات الغرف البعيدة عن الأحداث، عن “حلبجة” و”عفرين” وخراب المدن في الدول المقصودة بالإرهاب، ستكون هناك حلبجات أخرى، وعفارين جديدة، وإرهابٌ بأشكالٍ أكثر دموية، ما دام العالم سادراً في هذا الصمت المريب، وكلنا نوّامٌ في ظل خرابه الواسع.

أقرأ أيضا