الحكومة الصالحة والإصلاحات والمصالحة (1)

تحدث الكثيرون عن الحكم الرشيد او ما سماه بعضهم الحكومة الصالحة. وهو أمر نسبي فما يراه العلمانيون غير ما يراه أصحاب الدولة الدينية، وما يراه العالم الحر الذي يؤمن بالانفتاح الاقتصادي غير ما يراه العالم الذي يؤمن بالدولة ذات الاقتصاد المخطط او الموجه، لكن المهم هنا ان نأخذ بالخطوط العريضة والعامة من تلك الآراء والتي تساعدنا بمحنتنا العراقية التي اشتدت بسبب كوننا لا من هذا ولا من ذاك.

 

فبالوقت الذي تتمسك فيه حكوماتنا المتعددة بصلاحيات الإدارة المركزية، وخاصة في مجال الخدمات، نراها تتنصل عن المركزية في إدارة أموال الدولة ومعاملها وعقاراتها التي بيعت وتباع بأرخص الأثمان، ومن دون تخطيط مسبق، مع العلم ان ما تملكه الدولة من عقارات وأبنية ومعامل ومزارع ومعادن يعتبر من ثروات البلاد التي تؤخذ بعين الاعتبار في العقود والتقييمات الدولية.

 

لهذا نرى ان معظم الدول في العالم، سواء المؤمن منها بالنظام الموجه ام بالنظام المفتوح، تحتفظ في امتلاكها الكثير من المعامل الانتاجية، عسكرية كانت او مدنية، وكثير المؤسسات الخدمية، كالمطارات وسكك الحديد والفنادق، وبعض المؤسسات العلمية، كالجامعات والمدارس والمعاهد، ووسائل النقل البري المائي والبحري.

 

ولو أخذنا مثالا وهـو الولايات المتحدة الامريكية كأكبر نظام رأسمالي في العالم، لوجدنا ان النشاط الحكومي الاقتصادي يمثل 24.1% من اقتصاد البلد، ويمثل القطاع الحكومي من العمالة او اليد العاملة 21.2 مليون عامل، مع العلم ان المشمولين بالمساعدات الاجتماعية يقاربون 16.4 مليون شخص.

 

ولو ركزنا في معيار التعامل بين الفرد والدولة لوجدناه مرتكزا في الهوية الوطنية، بالرغم من وجود مئات القوميات والأصول المختلفة والأديان والمذاهب المتنوعة. لكن التعامل على اساس الهوية الوطنية أغناهم عن الكثير مما يفرزه التعامل على اساس الهويات الأخرى الفرعية التي تفرق المجتمع وتخدش السلم الاجتماعي، لا بل تقوضه.

 

تستوجب هنا، وبعد ان ذكرنا اعلاه، ضرورة اعتماد الدولة على الهوية الوطنية دون سواها، وان نبين ان الحكومة الصالحة يجب ان يكون من ثوابتها العمل على وضع تنمية اقتصادية مؤسسة على واقع البلد وثرواته الحقيقية.

 

في العراق توجد ثروات مهمة وغير قليلة، ومنها الثروة المائية المتمثلة في نهري دجلة والفرات وروافدهما، ما يحفزنا لاستثمار هذه الثروة التي هي حجر الأساس لقيام قطاع زراعي يوفر الأمن الغذائي للمجتمع، ويؤهل لقيام صناعات متنوعة في البلد، وأبسطها صناعة الجوت والصناعات الخشبية والأثاث، وصناعات التمور والزيوت والأغذية المعلبة والمعجون او صلصة الطماطة، وصناعة السكر المعتمدة على زراعة قصب السكر والبنجر، اضافة الى الثروة السمكية النهرية والبحرية التي تعتبر نسبة تكاثرها في البلد نسبة جيدة، وكذلك في التنمية الصناعية السهلة في العراق صناعات البتروكيمياويات، خاصة وان العراق بلد نفطي وان بعض من نفوطه تحتوي على المواد الأساسية لانتاج (70) نوعا من المنتجات النفطية المختلفـة، حسب احصائيات شركة النفط الوطنية العراقية السابقة.

 

من كل ما تقدم نعلم مدى امكانية بلدنا لخلق روافد جديدة للاقتصاد الوطني، إلا ان كل ذلك لا يمكن الوصول إليه من دون خلق قاعدة تشريعية قانونية تشجع التنمية وتحافظ على المنتوج الوطني وتساعده على النهوض، ومنها قانون البنى التحتية، وقانون جيد ومحفز للاستثمار، وقانون حماية المنتج والمستهلك، وقانون الكمارك والمكوس الذي من بين أهدافه حماية الانتاج الوطني من المنافسة الأجنبية، مع تعديلات مهمة لقانون التجارة العراقي حتى يناسب التغيرات الجديدة في واقع التجارة المحلي والعالمي، اضافة الى ضرورة اصدار قوانين جديدة للتأمين على البضاعة والنقل بما يوائم حركة النقل البحري والبري العالميتين والتي تعتبر حركة النقل المحلية جزءا منها، واعادة تشريع قوانين الشركات والجمعيات والنقابات المهنية، كنقابة المهندسين والمدققين والاطباء والمحامين والصيادلة وسائر ذوي المهن، وكذلك اعادة الحياة للنقابات العمالية والجمعيات الفلاحية، وتفعيل دور اتحاد الصناعات واتحاد الغرف التجارية واتحاد المقاولين العراقيين، وغيرها، لما للجمعيات والنقابات والاتحادات من دور كبير في عملية تطوير المهن وخاصة في مجالات الابداع والابتكار ومجال وضع مواثيق الشرف لجميع العاملين في السوق، وخاصة ممن ينتمي للقطاع الخاص ودورهم في عملية  التصنيف المهني. كذلك لهذه الاتحادات دور في تنمية العلاقات بين العراق ودول العالم، ومنها خلق الثقة بينه وسائر الدول.

 

ان كل ما تقدم يقع ضمن دور الاصلاحات التي يستوجب قيام الحكومة العراقية بها من اجل بناء قاعدة ثقة العالم بالعراق، مع العلم ان رصيد الثقة بالبلد كلما زاد زاد التعامل معه من قبل المجتمع الدولي من ناحية، ومن ناحية اخرى يكون وقوف المجتمع الدولي مع العراق اكثر جدية وخاصة عندما يكون العراق في مشكلة او ضائقة او كارثة لا سامح الله.

 

من نافلة القول هنا ان الاصلاحات يجب ان تشمل النظام الاداري في البلد بحيث تسهل جميع الاجراءات على المواطن، وخاصة تقليل الاحتكاك بين المواطن والموظف المسؤول وجعل رأي للمواطن في هذا التبسيط للاجراءات، وضرورة جعلها في متناول معرفته وهذا يجرنا الى ضرورة وضع قوانين النزاهة والمحاسبة والتدقيق والعمل على تفعيلها كقانون اسمى في العمل الوظيفي، وبالتالي خلق نظام علمي متين وواضح للجميع عن طريق التثقيف بمبادئ النزاهة اولا ومكافحة الفساد باجراءات عملية قانونية وتحقيقية لوضع حد لكل من تسول له نفسه بالتلاعب بأموال الدولة والناس.

ويبقى موضوع المصالحة للعدد القادم وإلى لقاء.

 

أقرأ أيضا