عن (الجنائية) الدولية وحاكم الخرطوم

عادت اللهجة الحادة والنبرة الهجومية ضد “الاستعمار” الأجنبي في أحاديث الرئيس السوداني عمر البشير، عشية الذكرى التاسعة والخمسين لاستقلال بلاده من الاحتلال البريطاني، والتي مر ذكراها يوم الخميس الفائت.  

كلام البشير بهذه المناسبة، والذي أطلق فيه العنان للسانه منتقدا الغرب – الأطلسي، يأتي بعد سنوات من توقفه عن مهاجمة حكومات غربية قال إنها أرادت القبض عليه وإذلاله من خلال تحريك دعوى قضائية ضده في “المحكمة الجنائية الدولية” بتهمة ارتكاب نظام حكمه جرائم ضد الإنسانية.  

ولمن لا يمتلك معلومات كافية وخلفية عن قصة حاكم الخرطوم و”الجنائية”، فإن هجومه عبر الخطابات الرنانة التي يُلقيها في المهرجانات الشعبية، أو حتى في تصريحاته الأخيرة المغلفة بـ”نشوة انتصار” على المحكمة الدولية ومن يقف خلفها، لم يكن لشجاعته أو قوة موقفه أو حتى براءته من التُهم المنسوبة إليه، بل جاء بعد أن جُمد نهائيا ملف القضية المُتهم فيها هو وعدد من أركان حكمه “الديكتاتوري” تحديداً العسكريين منهم.   تجميد الدعوى بحق “زعيم الأمة السودانية” -مثلما يُلقبه أفراد حاشيته- تم فعليا منذ شن حلف شمال الأطلسي “الناتو” حربا على معمر القذافي الزعيم الليبي الراحل، وليس منتصف شهر كانون الأول من العام المنصرم، حيث أُعلن عن التجميد رسميا.  

وبحسب معلومات متداولة على نطاق دبلوماسي محدود، فإن إيقاف ملاحقة الرئيس “المُعمم” ذي الخلفية العسكرية، جاءت نظير “الخدمات الجليلة” التي قدمها لـ”الناتو” أو بشكل أصح إلى معارضي وأعداء القذافي الذين حولوا “الثورة الشعبية” ضد صاحب “الكتاب الأخضر” مطلع عام 2011، إلى عمل مسلح دُعم سريعا من دول خليجية كان حكامها يتعرضون دوما لانتقادات لاذعة واستهزاء من قبل “العقيد”، لا بل حتى محاولات اغتيال.   المعلومات التي ترشحت لمسامع (كاتب المقال) خلال لقاء مع دبلوماسي أجنبي يعمل حاليا في بعثة بلاده ببغداد، وكان قد عمل سابقا في سفارة بلاده بطرابلس، تفيد بأن “خدمات” البشير تجسدت في تقديمه أسلحة ومعدات عسكرية، بينها دبابات، إلى المعارضة الليبية، أسهمت بالحفاظ على إدامة زخم الحراك الجماهيري المسلح المدعوم عربيا وغربيا، ضد القذافي الذي كادت مليشياته ومرتزقته الأجنبية أن تقضي نهائيا على الانتفاضة الجماهيرية التي انطلقت شرارتها بداية في مدينة بنغازي ومناطق الشرق الليبي القريبة من الحدود مع السودان.

وبحسب المعلومات الدبلوماسية، فإن حمد بن خليفة، أمير قطر السابق، ووزير خارجيته آنذاك حمد بن جاسم، والأخير صاحب التشبيه الشهير الذي أطلقه داخل مجلس الجامعة العربية وأكد فيه أن “العرب أصبحوا كالنعاج”، هما من كانا عرابَي هذه الصفقة بين حاكم الخرطوم وأعضاء “الناتو” المتعطشين للإطاحة بـ”قائد الجماهيرية الليبية” الذي صدرت الأوامر سريعا بقتله خشية كشفه عن أسرار وفضائح يمكن أن يُدان بها الغرب، رغم انه كان مطلوبا أيضا لـ”القضاء الدولي” على خلفية ارتكابه مجازر وحشية ضد أبناء شعبه خلال فترة حكمه الطويلة، واتهامه سابقا بقضية “لوكربي”.  

ومن الأدلة التي تثبت بشكل قاطع، دور البشير في تقوية شوكة معارضي القذافي والمساهمة في الإطاحة بالأخير الذي كان يمول ويسلح مليشيات معارضة لحاكم الخرطوم، هو تفاخره بدعم ما أسماها بـ”الثورة” في خطاب ألقاه من مكان مرتفع يطل على “ساحة الشهداء” خلال زيارته لطرابلس الغرب عام 2012. وقبل ذلك في تصريح أدلى به خلال احتفال جماهيري أقيم نهاية عام 2011 في مدينة “كسلا” بشرق السودان بحضور الرئيس الاريتري اسياس افورقي وأمير قطر السابق، قال فيه ان “القوات التي دخلت طرابلس كان جزء من تسليحها سوداني مائة بالمائة”. ويتساءل البعض هنا: “ما حال البشير الآن، لو لم يسقط القذافي؟”.   المُثير للاستغراب في هذه القضية أو ما يصح أن يطلق عليها “الألعوبة الدولية”، هو إن حاكم “بلاد ما بين النيلين” ظل يلتزم الصمت المُطبق ولم يتهجم على المحكمة الدولية “المُسيسة” التي لا يمكن تنزيه نشاطاتها “المريبة” هي الأخرى. حتى انه لم ينبس ببنت شفة ضدها طيلة السنوات التي أعقبت ما عُرف بـ”الربيع العربي”، خلافا لما كان يصدر عنه منذ لحظة توجيه الاتهامات لبعض أركان حكمه مطلع عام 2003 وحتى 2010 الذي صادف أن تكون نهايته، بداية الانتفاضات الجماهيرية في المنطقة.  

يعترف البشير الذي مضى عليه في الحكم ربع قرن، بعد تسلقه للسلطة عبر انقلاب عسكري، بأن المحكمة المختصة بمحاكمة مجرمي الحرب في العالم، أرادت إذلاله. وبالفعل فقد كان مدعيها العام السابق الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، هو من يتكفل بهذه المهمة التي تحولت في بعض الأحيان لمادة من السخرية والاستهزاء بالرئيس صاحب العمامة البيضاء، ونظام حكمه “الانقلابي”. إذ أنه في إحدى المناسبات أراد البشير السفر إلى دولة خليجية، ليخرج له أوكامبو مهددا بان مقاتلات “الناتو” ستعترض طائرته الرئاسية عند تحليقها في الأجواء الدولية، ومستهزئا به: “في حال لم تنصاع الطائرة.. فسيتم قصفها”. لتثور ثائرة الرئيس المتعكز على عصا خشبية، كائلا السباب والشتائم تجاه أوكامبو والمجتمع الدولي، وسط هتافات مريديه وأنصار حزبه الحاكم، فيما أُجبر في نهاية المطاف على إلغاء سفرته الخارجية على وقع تهديدات أوكامبو.  

أعتقد، كما غيري آخرين، أن “الزّول الكبير” الذي تظهره اللقطات هذه الأيام وهو يتراقص على أنغام موسيقى بلاده الشعبية فرحا بـ”الانتصار العظيم” على المحكمة الجنائية، كان يخشى الإطاحة به من سدة الحكم، مثلما حصل مع نظرائه الديكتاتوريين في تونس وليبيا ومصر، الذين تهاوت عروشهم تحت أقدام شعوبهم، ما دفعه في نهاية المطاف إلى تقديم فروض الطاعة والولاء للغربيين، عبر دعم المعارضة الليبية وغيرها من الأمور. وقبل ذلك دفعته هذه الخشية، للتنازل عن الجزء الجنوبي من بلاده الغني بالنفط، مقابل البقاء في منصبه، كما يُقال. إذ أُعلن عن انفصال الجزء الجنوبي من السودان بعد سنوات من توجيه الاتهامات الدولية صوب البشير الذي بدا انه مهتم فقط بالجلوس على كرسي الحكم دون اكتراث لما يحصل من قضم لأجزاء من بلاده يُراد لها الخروج من تحت عباءة حكمه “الفاشل”، وهو ما ينتظر أقاليم “دارفور”، و”جنوب كردفان”، و”النيل الأزرق” على الأرجح.   الآن، وبعد زوال خطر المحكمة الجنائية، وقبل ذلك الحراك الجماهيري في بلاد “النيل الأزرق” الذي قمعته أجهزة الأمن البوليسية هناك، خرج حاكم الخرطوم في لقاء تلفزيوني، وتعلو وجهه ضحكة عريضة، متهكما على المحكمة ومن يقف خلفها، فيما ترزح بلاده تحت واقع اقتصادي ومعيشي مزر دفع مئات الآلاف من السودانيين للهجرة.   لكن يبقى السؤال المهم، ما الذي تغير لتتراجع المحكمة الدولية عن وعيدها وتهديدها ضد البشير؟ لاسيما وانها كانت قد أكدت امتلاكها أدلة كافية تثبت تورطه هو ووزير داخليته السابق أحمد محمد هارون وأحد قادة ميليشيا “الجنجويد” حليفة قواته الحكومية في النزاع الذي عصف بمنطقة “دارفور” ومناطق واسعة من السودان!   أعزائي القراء، هكذا هو “نظام العدل” الدولي الذي تتفاخر به البلدان الغربية، يصمت ويتراجع عندما تُعقد “الصفقات المشبوهة”، خصوصا وأنه كان بإمكان دول حلف “الناتو” الموقعة على قوانين وقرارات “محكمة الجنايات” القبض على البشير خلال زياراته لطرابلس الليبية التي كانت تصول وتجول في أجوائها طائرات الغرب الأطلسي!

أقرأ أيضا