فخٌّ آخر أم تقويمٌ مختلف؟

إن الإشكالية المعقّدة التي نواجهها في حياتنا اليوم، تتمثل في نشاط من يتخّفون بيننا تحت عباءات ورعٍ فضفاضة، ويُجاهرون بكلامٍ منمّق الألفاظ وعالي النبرات من أجل تبيّيض سواد سيرتهم اليومية، وإخفاء حقيقة نواياهم المضمرة في إدارة وتعميق ما يصنعونه من أزماتٍ متتالية. وكثرٌ من هؤلاء يتنفذّون، إجتماعياً، بادعاء تمثيل رموزٍ “مقدسّة” لها وقعٌ مؤثّر في أذهانٍ الناس ومشاعرهم التي مازالت معلبّة في التقليد، ومكبّلة بالتورّيث. وفي تلك المنطقة الرخوّة من النفوس تعمل موجهاتهم المرائية وتنتشر كما الوباء، في غفلة العقول التي روضّها الكسل وانتظار ما تقدرّه الأيام من مصائر، دون تدّخل أو مراجعة.

 

وحينما تفتقد هذه العقول لشعاعٍ يتوهّج في أعماقها، ويكشف زيف ما يُخبئه هؤلاء الأدعياء، فإنهم يحفرون، بمثابرة نملٍ أبيض، أخاديدَ غائرة في ركود الأذهان تعطّل المنازع المنشّطة للحياة فيها، وتعدم إمكانية كشف حقيقة ما يدور في الخفاء من ألاعيبٍ ماكرة. وفي أجواء الخديعة هذه، تتوالد ذئابٌ بشريّة ترتدي جلود حملانٍ تثغو ببراءةٍ مدنسّة بالنفاق، ثغاءٌ يتم تصنيعه للآذان التي أدمنت الخنوع لتلويحة عصا الراعي، والإنبهار بايقاع من يستعيرون أصواتهم من مدافن أزمنةٍ غابرة، ليكون قداساً جنائزياً لموت الأحياء وهم على قيد الحياة.

 

ولكن، يبقى الأكثر إشكالية من هؤلاء، هم من يُراهنون على سلطة العقل، ويدعون للتعامل بأحكام الوعي اعتماداً على ما تقدمه منظومات التطور العلمي من أسانيد لمواجهة خرافات الجهل والتخّلف. ويتبنون ما يؤكد على تغيير مفاهيم لم تعد صالحة لمواجهة تداعيات الأحداث، وتزاحم الأفكار، في فضاءٍ عالمي بلا حدود، يحفّز أفكارهم وأدواتهم الخاصة في تحليل الظواهر، ورسم الأهداف، حيث تماهت معها جماعاتٌ وأفرادٌ خلقوا لهم وسطاً يتعارض مع شبحية المنقول بلا مراجعة أو سندٍ عقلي، ويبحث عن معانٍ جديدة للحياة على هذه الأرض.

 

وتتضاعف الإشكالية وتتحوّل إلى ما يشبه التورّيط والصدمة، حينما يُفاجأ هذا الوسط، وهو أقلية مضغوطة في وضعنا الحالي، بأشكالٍ جديدة للتعامل مع تلك المفاهيم، وتفسير طبيعة ما يحدث والتعامل معه على وفق ما يرسمه الأقوى من خرائط للصراع، هو نفسه من ينصب عليها شارات المرور الثلاث لحركة سير الجموع، ويتحكّم بالعدّة والعدد، الإندفاع والتراجع ، وتغيير الأحكام بحسب المصالح والأهواء. ولنا في هذا المجال تجربةٌ مرّة، حيث إنزلق من كان مؤتمناً على مستقبلٍ الناس إلى شراك الأقوى، وترك أجساد أتباعه عارية ملساء تحت أسلاك فخاخه الشائكة (كلٌ يتدّبر أمره) وغاب، مثل فصّ ملحٍ ذائب، بعيداً عن محن وويلات الناس التي كان هو السبب الرئيس في تراكمها، وفي آثارها المدمرّة للأحلام التي تمت غوايتها بجنّاتٍ أرضيّة لا فقر فيها ولا حرمان،متسّرباً بجلدٍناعم من غربال الفّخ الوطني !الذي صُورَّ، يومذاك، كما لو أنه شاطئ الأمان الذي لابد من الرسو فيه، والإنطلاق منه إلى عالم التحالف والتشارك ، حيث يُبنى هناك صرح وطنٍ جديدخالٍ، بمعجزة الأمنيات، من الخيانة والدسائس ! . وكان ياما كان……

 

إن التوافقات الهشّة على ما لا يُمكن الإتفاق عليه من إختلافات في طرائق التفكير، وأشكال الحياة الملائمة لها ،والتعويل على مقدماتٍ طارئة لمواجهة ما يُطلق عليه مواجهة ” خطر مشترك ” يحتفظ الطرف الأقوى في معادلة التوافق بجذورٍ له تنمو في تربة الخطر نفسه ، وينابيع تصبّ في ذات مصالح الطرف المُختلف معه ،تكون لها نتائج باهضة الثمن في مسارات الحياة المقبلة .إن تكرارالتجارب الخاسرة بذات العقليّة السياسية والثقافية المسّطحة،يضع مستقبل الناس في دوّامةعواقب كارثية تزداد سوءاً ، وتُعيد الندم مضاعفاً .

 

ويبقى الخيار وإن كان صعباً: إنقاذ العقول المضللة من الأوهام التي تستوطن خلاياها، وتفتك بذاكرتها الحيّة لتجعل منها مجرّد وعاءٍ لإستفراغ الهلوّسات، والغرائز المنفلتة من غياب الوعي ومحو الذاكرة.

 

وأن يتم نزع العباءات التي تحجب حقيقة النفوس المتعفّنة بالدم بالفساد،وفضح تكشيرة أنياب الذئاب المتربّصةخلف شفاه البراءة الزائفة.ويكون للمثقف ، الذي يريد أن يكون له دورٌ في الشأن العام ، نشاطه المستقل عن معمعمة التجاذبات ونزاعات الباحثين عن الغنائم ، ومساحته الحرّة في العمل والتأثير بأدوات جديدة،ووسائل مبتكرّة، تُناسب طبيعة مجتمعنا العراقي الذي تعرّض في العهود الأخيرة إلى الكثير من التصدّعات في بنيته السوسيو- ثقافية والإجتماعية والنفسية، نتيجة سياسات حمقاء،وممارسات ساسةٍ قراصنة لم تتجاوز رؤاهم القصيرة ساحات الحروب،وجدران الزنازين الضيَقة من قبل ،وحدود الكسب واللهاث وراء مغانم متوارثة من جينات القبائل الغازية، ومن سلوكيات الشحاذة على أبواب مَن لا يُريد خيراً لشعب هذه البلاد ، فيما بعد.وأن تكون لهذا المثقف قراءاته النوعية لما يُخطط له على وفق استراتيجيات خفيّة ومعلنة هدفها رسم خرائط جديدة ، وخطوط جغرافيا سياسية تضمن مصالح دولٍ كبرى بأدواتٍ إقليمية تصّدر لأبناء المنطقة هويات طائفية وإثنية تدمّر وجودهم، وتجعلهم مفتتّين بلا إرادةفي تلقي ما سيأتي من ضربات موجعة.ويكونون لا أكثر من مستهلكي هواءٍ مجاني يعادلون لهم قيمته بأسلحةٍ فتّاكة يرهنون لها ما تحت أرضهم من ثروات ، وما فوقها من أرواحٍ بشريّة، صارت مجرّد أرقامٍ ، مدوّنة سلفاً ، في قوائم الموتى.

 

وفي هذا السياق، أعتقد أن خير من يتصدّر واجهة الأحداث المتسارعة، وتجدّد عناصرها المفاجئة للعقول التقليدية الخاملة، هم المثقفون الشباب ممن لم تثقل عقولهم الفتيّة المشاكسة، وذاكرتهم الطرّية الناصعة، إحباطاتُ أجيالٍ شاخت على إيقاع فكرةٍ واحدة. شبابٌ لهم القدرة والشجاعة على التعامل بجديّة ومثابرة في تجنّب أورام الأفكارالجاهزة والمسبّقة التي مازالت تنخر في عقول الكثيرين من ورثة العقائد العمياء،وجعلتهم أشباح نصوصٍ بلا بريقٍ للمعنى ولا بارقةٍ للأمل. يقرأون وصاياهم الأخيرة كما لو أنها صكوكٌ للغفران ، ومثلما ببغاوات في أقفاصٍ معلّقة في الهواء، لا يُجيدون غير ترديد ذات الكلمات بسياق الأمروالموعظة . ومثل هؤلاء الشباب ، ينبغي أن تترتّب أفكارهم ، وطبيعة تفكيرهم، بضوء مستّجدات الأحداث ،وما يجدونه فاعلاً ومؤثراً في تكوين شخصية مجتمعية تفاعلية خارج الأُطرالتي صدأت، ومناهج التفكير التي بَليت، ودون التعكّز على مقولات ونصوص تصيغ الواقع على مقاساتها، وتُبيح لمن تعتّقوا في الأوهام سلطة المطالبة بتطبيقها. وعندما يتحقق ذلك، ستكون معادلة التوافق ممكنة على نمط حياةٍ مختلف ،حيث سيدرك العالقون بمفاهيم موروثةٍ وملتبسّة، بأن الواقع الجديد يطلب منهم أن يقدمّوا عقارب ساعاتهم المتأخرة على توقيت زمنٍ آخر، يصلح تقويمه للجميع ،ويعمل الجميع من أجل تحسين الحياة في ظل توقيته المختلف .وعندما لا يكون ذلك ممكناً ، بحساب العقائد التي صارت مفقساً خصباً للفساد والمصالح الضيّقة.وبقاء المثقفين الشباب في دوائر إملاءات ووصايا من يريد أن يبقى رمزاً يُحتفى به كصوابٍ دائم وإن كرّر ذات الأخطاء ، وتسليم رادارات أفكارهم لأيدٍ مرتجفّة، وعيونٍ لم تعد ترى جيداً ما تنظر إليه. وتشبّث البعض بأن تكون لهم الأحقيةالمطلقة، والريادة الدائمة التي لا تقبل النقض والمنافسة،وهم يستبعدون حق الأجيال الجديدة بإجتراح ما هو مناسب لغليان أرواحها، وحداثة أفكارها،عبر الإرتياب والإنتقاص من قدراتهاالمغايرة لنمطيّة تفكيرهم التقليدي ، ورؤاهم الواهمة .

 

وحيث تستمر هذه الصدوع العميقة في حياتنا،سيبقى الكلُّ في نزاعٍ مع الكلّ، تحت سيطرة الأوهام التي تغتّذي من فراغ عقولنا ،وتنمو في سذاجة القبول بالنوايا المخادعة لناصبي الفخاخ، وحاملي صواري الموعظة، الذين يسعون دائماً للتحكّم في نفوسنا، وتحويلها إلى وقودٍ دائم لحرائق لا تنتهي.

 

أقرأ أيضا