نَرْد الثعالب

يبدو أننا لم نكتف بعد بما تقطّع من نسيج أعمارنا في متاهات صنّاع الخراب، من مستّبدين ومفسدين، الذين توالوا على حكم هذه البلاد، ولازالوا يصرّون، بصلافة الأنذال،على اللعب بذات طاولة نَرْد الثعالب، حيث يُظهرالبعض منهم الزّهر بلا نقاط إحتسابٍ رابحة أمام عيون من يريد أن يكون ملحقاً في مصهرهم السياسي، وإن أبدى مغايرةً خجولة لا تتعدى الهمسات.إن من يرتضي التبعية للأقوى، ويُسلّم ما في جعبته من أفكارٍ وأسرار، لا يُريد أن يعتقد بأنه طرفٌ مخدوعٌ في لعبةٍ أعلن قبول ما يضعه اللاعب الأقوى من شروط وقواعد لإستمرارها،خصوصاً إذا ما كان إعتقاده راسخاً بأن الحق سيكون معه في نهاية المطاف، وأن التاريخ لا يُمكن أن يخذله، وهو الأمين على ركوب ذات القاطرة القديمة. وبكل أوهام التصديق بما يفكر به ويتمناه، يشارك في رمي زّهرالرهان المغشوش على بياض عقول البسطاء من الناس، ممن تُغويهم قوة الأنفعال في الكلام، وتكبحهم سلطة الرمز الذي يصنعونه بأنفسهم في زمن الأزمات وعمق الفراغ في أرواحهم . وبعد حين، يعلن من يُدير اللعبة ،في نهاية الشوط المقرر توقيته سلفاً، فوزه الأكيد دون حاجةٍ للنظر أو التدقيق فيما قام هو نفسه في تصنيّعه ، ليكون الجانب الأبيض من الزّهر، حظاً يستحقّه من صدّق وجود قواعد للعبّة ، وحصّة له عليه واجب القبول بها، لأنها من نتائج المشاركة.

 

وتبقى إشكالية واقعنا تتضخّم وتتعقّد في ظل هذه البنى المختّلة، خصوصاً باستمرار من يدّعون تمثيل ما يحسّن واقع المجتمع بأدوات جديدة، وأنماط حياة مختلفة، ضحايا تصورّاتٍ ورؤى آنيّة شاحبة، تتشكّل من غياب العقل، وقوة الإنفعال على مساحة الأوهام. وحيث توضع على مرقب تفكيرهم عدسة مستعارة،فأنهم لا يرون إلى مضاعفات الأسوأ من الأيام القادمة ، ولا مراجعة ما تمّ ترويضه من النفوس بمتوالية لم تتوقف من الأضاليل والخدع التي صارت علاماتٍ فارقة لتوصيف طبيعة السياسة في هذا الوطن المستباح .

 

لن تكون هنالك خطوة جديدة واثقة بما نريد، إذا لم نواجه أنفسنا بما هو حقٌ للناس بحياةٍ مختلفة، دون شرط من أحد على أحقيّة وتمثيل لما هو إستحقاقٌ عام، وحقٌ تُلزمه مفاهيم العدالة والحرية والتعايش المشترك. ولن يكون لنشاط الفاعل المدني الحقيقي نتائج إيجابية مؤثرة،اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، في خارطة التغييرات القادمة إذا لم يفهم طبيعة اللعبة التي تحدث الآن بدون قواعد مرئية واضحة ، حيث تتداخل مصالح اللاعبين وتتقاطع على طاولةٍ أكثر إتساعاً من مساحة البلاد.وما يخفونه تحت أكمامهم الطويلة أكثر مما يعلنون عنه في لقاءاتهم التمويهية القصيرة، مستفيدين من أجواء الفوضى التي تعصف ببنى المجتمع، وإرتفاع منسوب الإنفعال الجماهيري الذي دائماً ما يغيب فيه العقل ، وتنشط في سيوله غرائز تحفيّز العنف والنزاع التي تكون قاعدة يعتمدها تجار النزاعات وأمراؤها، للإنفراد بالإمتيازات والإستحواذ على الثروات. وعندما يبقى البعض منا أسيراً، بإختياره، لطرفٍ مؤثر في المشاركة، فأنه لا يستطيع أن يقول له في حمّى اللعبة : كيف أضمن بأنك لن تكون ، بعد نهاية هذه اللعبة ، مثلما كانوا يراهنون على حياتنا ببياض زّهر الخديعة، الذي هو القاعدة الأساسية على طاولة الثعالب ؟ إن درجات الإنفعال العالية لا تسمح بهمسات العقل الناعمة. كما أن من يضع ثقته بمقدمات يرسم خطوط مساراتها طرفٌ آخر، ويُخطّئ من يبدي رأياً مختلفاً بشأنها،سيتثعلب هو الآخر حينما تكون النتائج مغايرة لما كان يعتقده من تصورات ، وما حاول أن يفرضه على غيره كخيارات وحيدة ممكنة. وبذلك ، يكون السكوت الخجول على النتائج غير المتوقّعة، دافعاً للبحث عن مسّوغات جديدة .. فيها الكثير من توصيفات المهزلة .

 

أقرأ أيضا