الخطاب النقدي في العراق وإعادة كتابة التاريخ بين المحو والاستذكار

    أستطيع أن أقول –إذا جاز لي- إن الخطاب النقدي في العراق بني على لحظتين، لحظة النسيان ولحظة الاستذكار وكلتا اللحظتين متعلقتان بالتاريخ وتنهضان على بنية الصراع وإعادة التكوين، وهما تنبعان من الزمن الحاضر لتؤسس الزمن الماضي، فضلًا عن ذلك تعد الأيديولوجيا عاملًا فاعلًا في تشكل تلك البنيتين، ولا أريد ببنية التذكر استعادة التاريخ فحسب إنما كشف تورط الذوات والبنى الاجتماعية في تهميش غيرها. ولا تنتمي بنيتا التذكر والنسيان الى عالم السلطة بل الى العالم المتسلط عليه، لذا تنهض السلطة بمهام التعبئة والتوجيه، كونها لا تتلقى الخطاب بل تبثه دائمًا، في حين أن المتسلًّط عليه في حالة تلقٍ دائم، وهذا ما يقود الخطابات النقدية في حقبة ما بعد الحداثة الى إعادة كتابة السلطة وتاريخ وعيها، وهي تمثل صعودًا للذوات الصغرى والمؤسسات المهمشة، أي أن ما بعد الحداثة أعطت للجميع حق المشاركة في كتابة التاريخ الشخصي أولًا والجمعي ثانيًا.

ولا تعد السلطة الفاعل الوحيد في إعادة الكتابة، بل يشاركها السياق التاريخي والحاجات الاجتماعية، والصراع الطبقي, فحاجات المجتمع تختلف من حقبة نقدية الى أخرى، كذلك ترتبط إعادة كتابة التاريخ بسؤال الناقد ومدى راهنيته، وتتصل الراهنية بسؤال المرحلة الثقافي والنقدي وكذلك الاجتماعي، فلا يمكن الفصل بين ما هو اجتماعي وما هو نقدي، أو بين ما هو سياسي وما هو نقدي؛ لأن الحاضر معيار لإعادة الكتابة، ومن هنا تتقاطع راهنية السؤال النقدي مع مسعى السلطة، فكلاهما يرمي الى التغيير مستندًا لبواعث خاصة مرة ذاتية ومرة حزبية أيديولوجية. لذا يمكن أن ينظر الى تلك الظاهرة في سياقها العراقي في سياق خاص، فقد ظهر هذا المفهوم مع دوارد سعيد، وما قدمه فوكو من طروحات مهمة، وأن هذين المفكرين نظرا الى هذه الظاهرة بوصفها ضمن إطار المقاومة الثقافية للسلطة والاستعمار أما في العراق فقد خضعت إعادة الكتابة الى السلطة وخدمت أدواتها. فضلًا عن أن هذا الوعي التاريخي الذي قدمته الخطابات النقدية جاء مع ولادة الدولة المركزية ذات الأسس الأيديولوجية، وكذلك مع ولادة الحروب والانقلابات، فهو وليد سياق ثقافي مشحون بالصراعات, لذا تهيمن على الخطاب النقدي بنية النسيان في الغالب, ويتصل ذاك النسيان بتكوين الأمة والأخطاء التاريخية التي ارتبطت بذاك التكوين, فالخطابات النقدية تسعى الى تأسيس ذاكرة جمعية جديد تخالف ما تقدمه الدراسات التاريخية التي تُلقي الضوء على أعمال العنف التي حدثت في أصل كل تشكل سياسي[1].

فالقارئ إذن إزاء حقبتين من الخطابات النقدية واحدة تشكلت في الستينيات، وهي الحقبة السياقية، وأخرى بعد سقوط بغداد في 2003، وتتبع كلٌ منها آليات معينة للوصول الى الحقيقة، فقد قدمت المناهج السياقية في الحقبة القومية دليلًا واضحًا على نسيان الماضي وإعادة كتابته. وما تحمله المناهج السياقية من هموم ورؤى نقدية في سياقها العراقي تختلف عن الرؤى النقدية التي تطرحها ما بعد الحداثة, فقد خيمت على النقد العراقي في الثلث الأخير من القرن العشرين موضوعات الحرب والصورة الفنية والبناء الشعري, وكثيرًا ما ظل الناقد غارقًا بالأيديولوجيا, وقد أُقصى بعض الشعراء وقُرّب آخرين لأسبابٍ عرقيّة، وتناول النقد ظواهر أدبية لأسباب دينية وطائفية, وأرى أن هذا التقابل بين ما هو نقدي وما هو سياقي هو تقابل جوهري, قاد الناقد الى موضوعات معينة, تضعه بين مأزقين: الأول هو المنحى الأيديولوجي, والآخر هو الانشغال بالنقد لذاته بعيدًا عن سياقه الفاعل في الحياة والمجتمع؛ لذا ينشغل بعض النقاد في دراسة بنية روايات الحرب مثل عبدالله ابراهيم ومحسن جاسم الموسوي, في حين ينشغل آخرون بالبعد الإعلامي والتعبوي لنصوص الحرب, فقد سكت الناقد البنيوي وكذلك الناقد التعبوي عن الحرب وآثارها, لا سيما تلك الحرب التي يبنيها الخطاب الروائي في مروياته, وأن غياب التحليل الناقد للخطاب مع حضور التحليل الواصف في النقد العراقي إنما يؤكد اندماج الناقد مع النص وفقدانه الفجوة المعرفية بين ما هو ذاتي وما هو أيديولوجي. وقد انتبه الدكتور حسن ناظم في كتابه (النص والحياة) الى فعل النسيان في الخطابات الأدبية والنقدية مشيرًا الى أن “الأدب فيما عدا الأدب الذي تظلل تحت دخان الحرب، الأدب الذي سمي بأدب الحرب – ينأى في دروب موحشة، والكتاب أوحشوا دروبهم بالعزلة متذرعين بقدرهم قدر الكاتب أن يمشي في الدروب الموحشة ليستكشف العالم. وحتى بعض كتاب الثمانينيات الذي أفلت من القبضة ظل أميناً لمنهجه في التعامل مع اللغة منتجاً كوميديا طاحنة بطلها الصوت ناسياً ما خلّف وراءه من كوميديا سوداء.. فقد بقيت الكتابة تواجه الكتابة وكفت عن مواجهة أي شيء آخر[2] يرصد حسن ناظم شكلين يمثلان تحولًا معرفيًا في الثمانينيات[3], فقد نحا بعض النقاد لدراسة بنية النصوص وانقطعوا لها بعيدًا عن ضجيج الحرب وأثارها المختلفة, وكأن الناقد وجد في النص النقدي مجتمعه الجديد وعالمه الذي يفر إليه, وهنا يتواطأ المثقف مع الحرب بشكل مضمر عبر انسحابه, أما الشكل الآخر من النقاد فقد اندمج مع السلطة, وتمثل ذلك من خلال الكتب النقدية الكثيرة والرسائل الجامعية الوافرة التي عنت بأدب الحرب والتي صدرت في الثمانينيات وما بعدها, ويشير ذلك الى مسعى النقاد لإعادة تكوين وعي المجتمع من جديد ليناسب وعي السلطة وإرادتها. فخطابه يحاكم تلك الحقبة لاستذكارها ما هو أيديولوجي ونسيانها ما هو إنساني.

   أما الحقبة الثانية فقد استندت الى مناهج ما بعد الحداثة في الغالب، وهي تمثل تحولًا في الموضوعات، فقد تناولت ما سكت عنه النقد العراقي في الحقبة السياقية، لا سيما تلك التي تحمل طابعًا أيديولوجيًا مرحليًا، وسعت هذه الحقبةُ لنسيان الحقبةَ التي قبلها وأعني بها الحقبة القومية، وذاك النسيان جاء بعد تحول الحكم السياسي في 2003 الى حكم الأغلبية، وقد غلب على هذه المرحلة سؤال الهوية والآخر والهيمنة والتعددية الصوتية, وكذلك النقد البيئي، ويمثل التذكر غالبًا في هذه الحقبة النقدية, وتحيلنا هذه الحقبة الى كتاب كيت إيكورن (نهاية النسيان: التنشئة بين وسائل التواصل), الذي أشار الى هيمنة الذاكرة في هذا العصر؛ لأن النسيان فعل أيديولوجي من أفعال السلطة, وحتى التذكر في بعض الأحيان يخضع لهيمنة السلطة, وإذا كان الحقبة السياقية حقبة توازن بين التذكر والنسيان على المستوى الفردي، فإن ما بعد الحداثة غلب فيها التذكر. ويمكن أن أقول إن ذاكرة النقد تغذيها السلطة والذاكرة الجمعية معا في الحقبة السياقية، وكلاهما يساعدان في تشكيل الخطاب النقدي وبناء رؤيته للذات والعالم. في حين تغيرت منابع الخطاب النقدي ما بعد الحداثة مستندة الى التعددية ونقد المركزيات لا سيما مركزية السلطة والذاكرة الجمعية، لتنتقل بذلك الى تعددية الذاكرة الفردية وتنوعها مثلما تختلف أيديولوجيا الخطاب النقدي لما بعد الحداثة ورؤيته. وبالتالي نحن إزاء أشكال عدة من إعادة الكتابة التي نحاها الخطاب النقدي، الأولى تجيء بدعوة صريحة من لدن السلطة، كما جرى في حقبة الثمانينيات وما تلاها، حين لبى النقاد حاجتها لإعادة الكتابة بشكل صريح، وتشير الى مسعى السلطة الى بناء رؤية جديدة تساير أيديولوجيا الدولة وهويتها الحزبية، وترمي الى محو كل ما يغاير تلك الهوية. أما الشكل الثاني من إعادة الكتابة، فتلجأ الى الإضمار ويفهمها القارئ من السياق، وهي أكثر قدرة على التأثير؛ لأن المتكلم لا يفصح عن نواياه إنما تكشف عنها الحقبة النقدية بشكل عام أو يفصح عنها الخطاب النقدي. وهناك شكل ثالث يتحقق حين ينسحب الناقد من مواجهة الواقع، والانشغال بموضوعات لا صلة لها بقضايا الإنسان ومشكلاته كما حدث للنقاد والأدباء في حقب مختلفة ولا سيما في الحرب العراقية الإيرانية حين تنازل الناقد عن مكانته وأخذ موقفًا آخر فرضته عليه الحرب. وأن كل شكل من هذه الأشكال يسعى الى تأسيس بنية النسيان ليعبر من خلالها الى بنية الذاكرة.


[1]ما الأمة، إرنست رينان، من كتاب: ما الأمة، مختارات مرجعية عن الأمة والقومية تقديم وترجمة: نادر كاظم، دار الرافدين- بغداد، ط1 2023: 94.

[2]النص والحياة، حسن ناظم، دار المدى- بيروت- ط1 2008: 31- 32.

[3]– ينظر: النص والحياة: 31.

إقرأ أيضا