ديوان مواسم الندى.. رحلة الحزن والمأساة

أصدرتِ الشاعرة العراقية وجدان وحيد ديوانها المعنون مواسم الندى عن متون المثقف للنشر و التوزيع و هو إصدارها الثاني بعد كتابها أضرحة الورد.و قد حوى هذا الإصدار الجديد مجموعة متنوعة من النصوص النثرية البالغة ٤١ نصا و قد سافرت الشاعرة فيها سفراً شعريا في عوالم شتّى و صور لا تعد لخّصت ما جال في نفسها من حزنٍ و غضبٍ و فرحٍ و ذكرى و بيّنت انفعالاتها و اختلاجاتها على هيئة نثرٍ مركّزٍ يوحي بقدرة الشاعرة على فن الإستعارة و التناص و توظيف التاريخ و الآي الكريم بما يلائم و طبيعة الحدث الذي تعرّضت له.

و عن اختيار اسم مواسم الندى لهذا الاصدار، قالت الشاعرة إن هذا الإسم هو أصلاً “عنوانٌ لنصٍ كَتبْتُه مطلع العام الجديد الذي عادة ما يبدأ بالتفاؤل والخصب والحياة التي تشير له كلماتي،و قد استخدمت الندى كرمزٍ للخصب و الحياة.”و كانَ هذا النص على وجه الخصوص تنويع في توجهات الشاعرة التي غلبَ عليها طابع الحزن و الحنين و الوحدة و الضجر،ليأتي بهيئة بعثٍ جديد لمغامرات العمر المستمر.

و لم يتوقف الدفق الشاعري عند رثاء النفس و استذكار الجروح و تقليب الذكريات و المحن السياسية و الاجتماعية التي عايشتها الشاعرة بل تعدّى لما هو أبعد و أعمق و راح يتفحّص أعماق النفس و ما تعانيه لتطبعه بطبعها الرومانسي القريب جدّا من أساليب المدرسة الرومانسية العربية المتمثلة بجماعة ابولو،فقد قالت تصف نفسها بصيغة الغائب الحاضر :

جلستْ على حافة الزمن
تسترق النظر إلى كومة قش مشتعلة بروحها
حين كانت تحرث الليل بمعول كلماته
فظلّت صامتة كالأرضِ..

بهذا الوصف الهادئ /الغاضب استطاعت الشاعرة بمفارقةٍ بديعة أن تلفت نظر القارئ المتفحص بل و تحرّك فيه الحيرة و التعجب،و تصدمه بأنها كانت على حافة الزمن و هي دلالة تشير لرؤيةٍ الذات بعيد عن الموجود/المحسوس و المُدرَك/الواضح لتبتعد عنّا زمانيا و مكانيا في لحظة ما لتعيدَ النظر هنيهة لواقعها و ترى نفسها تنظر لكومة قش مشتعلة لتبقى صامتةً كما الأرض و هي إشارة مفارقة أيضا ؛ إذ إنّ صمتَ الأرض ليس بالدائم و لابد أن تعقبه الزلازل و ثورات البراكين و ما شاكلها لتشير الشاعرة إلى أن صمتها هذا مؤقت و سيكون بعد الصمت رد فعلٍ لا يمكن توقعه.

لا تتوقّف الشاعرة عن توثيق حزنها المتواصل ذلك الحزن المتأصّل في روحها و أعماقها تماماً،و مثل هذا الحزن الأصيل يكاد يكون موجوداً حتى في الحُبّ و لحظات السعادة الغامرة،فها هي تنادي عاشقها المفترض الذي يمكن أن يكون تفائلها او أملها تناديه ألا يفارق قبرها لتطلبَ منه أن يكون أبد الدهر قريبا منها /حتى لا تتساقط أوراق بؤسي من حكاية جرحي/ و يبقى تاريخ يأسي على سارية قبري

و في نص “نافذة الضوء”يكاد يكون وصف الأحزان أكثر ارتباطا بالطبيعة كما يتضح في العنوان الذي ارتبط بالضوء الذي ينير كُل شيءٍ،هذا الضوء الذي لولاه لما كان لموجودات الحياة صورة،و لذا نلاحظ منذ البداية أن التشبيه/التقريب الصوري كانَ ملبوساً بِلبوس الطبيعة و صورها و قد أدرجت الشاعرة في نهاية النص مفردة الخطيئة التي تأخذ في هذا النص منحى مميّز يصل حدّ ظهورها على الشفاه.

هكذا تنمو الاحزان كالغيوم
و تلبس السماء ثوبها الاسود
و تتوضأ الشفاه بالخطيئة…

و على المنوال نفسه ترجع الشاعرة في نصها “هذيان الليل” لتوقظ حزنها و تقول هذه المرة : يُكسر الحزن خاصرة الليل/و تُغسَل جسد الأزمنة بالضوء…تطوف سحب العتب/تتفتح نافذة الوقت يتصاعد دخانٌ…و لَعمري إنّ بناء هذا الجوّ المليءِ بالظلمة و الغربة يحمل دوماً مدلولاً مرتبطاً بطبيعة روح الشاعر و لا ينفكّ هذا الارتباط يظهر بين الفينة و الأخرى حتى في لاوعيه حين يكتب ليأتي البناء اللغوي بشكل طبيعي مطبوع بالحزن دون تحكّم و تفكير.

و لعل ما جاء في نص “مواقد الشتاء” يمثّل هذه الرؤية الأصيلة المطبوعة،اذ عبّرت الشاعرة عن نفسها و لكن باستخدام الضمير الغائب على أنها واقفة على منحدرات الألم و على نقطةٍ شاهقة بالجرح /يؤرقها الانتظار.و أنّها استسلمت و لم تعد تنفعها مفاتيح اللغة /و لا تواطؤ الورق و عادت لتنقع ذاتها أن الوقت مرّ..

مرور الوقت هذا،و هذيان الظمأ ، ماء الخطايا، الجرح القديم،تواريخ الضباب،جسر الآهات،الحواس المتعبة،و الكلمات المذبوحة كلها تعبيرات دخلها الحزن من كُل باب و إذا لم يكن مباشرا في اللفظ جاء في المعنى و التوجّه و إن لم يكن في المعنى و لا التوجّه جاء كأثرٍ في مجمل روح النص.

و مثلما كان نصيب الحزن وافر في نصوص الشاعرة كان للحنين نصيبٌ أيضا لكن هذا الحنين جاء بصورة مركزة كالحنين للماضي و لعل ابزر صوره كان في نص ” رفوف الأيّام ” و ” حكايات على ضوء قنديل” الذي كان رثاء رثت به الشاعرة والدها الذي أثر فيها أشدّ تأثير و اخذت شيءً من أخلاقه و طبائعه لتتذكر تلك الأيام التي مرّت و تتشوّق لعودتها و هي تعلم أنها لن تعود حتى وصفت تلك الأيام بالفردوس الذي لا يعاد و لا يمحى .و تظل في نصيّها هذين تتذكر و تأسى بما حَل مثلا في تسعينات القرن الماضي في العراق،لتقول :

حين دارت رحى الحربِ
و التهبت جمرة الطعن و الضربِ
خفقت رايات الظلام /و كشفت الأيام عن ساقها

كل هذا عايشته الشاعرة في ظل ما حصل بعد احتلال الكويت،و ظروف الحصار التي فرضت على الشعب العراقي لكنها صمدت رغم ذلك و بقيَ ألق الحياة يشع بداخلها ضرباً من الدهر حتى وفاة والدها الذي شبّهته بالاسكندر و رسمت كعادتها جوّها المملوء بالْهواجس و الاحزان المتراكمة …لتفصح أن الليل عابسٌ /و أن الشيب طرّز الحكايا / بل و عجبتُ للجبال ( أنها ) لم تنهدّ لفقده /و الشمس كسفت/و غادر المطر مدنِ الضوءِ.

و عندَ سؤالنا الشاعرة عن الحزن و الحنين اللذين طَبَعا نصوصها في هذا الديوان قالت” الحزنُ رفيقٌ قديم له جذور سومرية” أما الحنين فإنّ له أبواب عدّة أوّلها قطرات المطر وأحلامنا المسافرة والأحبّة في محطات الغياب..إنّ للحنين أجنحة تحلق فوق حقول الحلم ،ومن منا بلا حنين.

أمّا عند سؤالنا عن بداية تجربتها الشعرية و النثرية فقد قالت أنها “تجربة تدفّقت بعد فراق الأحبّة إذ اخذت مشاعرنا تكون مرهفة أكثر بل و أستطيع أن أقول إنّها تمردت على كل صور الحنين وفتحت أبوابها بأشكال شعرية متنوعة بين حزن ورثاء وغياب وذكريات محفورة في ذاكرة الفصول.و في خضم حديثها عن تجربتها و ظروف بناء صورها الفنية استذكرت الشاعرة نصها ” حكايات على ضوء قنديل “و هو النص الأطول في الديوان و وصفته بأنه من اجمل النصوص التي كتبتُها،و قد قالت ” إنه قد جاء بطريقة سردية تضمنتْ رثاء لأبي المرحوم الذي كان بنظري موسوعة للثقافة والأدب والشعر و في الوقت ذاته تناولتُ في هذا النص- خصوصا -جمال تلك الأيام رغم قسوة الحرب وعتمة الليل الذي أرخى بسدوله على العراق”.

إقرأ أيضا