كنفاني وحول والرحباني قدموا «عائد إلى حيفا» قبل 4 عقود.. ومخرجه يشرح أسرار عروضه المتكررة

يشكل الفيلم السينمائي الروائي الطويل “عائد إلى حيفا” علامة فارقة في سيرة المخرج السينمائي العراقي الكبير قاسم حول، عن رواية الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، وموسيقى الموسيقار الشهير زياد الرحباني، فهو يحظى بعروض دائمة منذ أكثر من أربعة عقود، وتحديدا من عام الإنتاج 1982 وحتى اليوم، آخرها عرضان سوف تستقبلهما صالتا سينما بنيويورك خلال شهر أيار مايو المقبل. 

وبالرغم من كثرة الأفلام الفلسطينية المهمة التي أنتجها الفلسطينيون، إلا أن “عائد إلى حيفا” بصيغته الملحمية وبنائه المتميز، ظل يمثل الصراع العربي الإسرائيلي خلال العام 1948 طوال تلك الأعوام، حيث عرضته أيضا جميع تلفزيونات جميع الدول العربية باستثناء خمسة فقط من بينها بلده العراق.

وحول ظروف الفيلم وكواليسه في ظروف الحرب الأهلية في لبنان، وسبب عروضه المتكررة، حاورت “العالم الجديد” السينمائي الكبير، متحدثا بالقول إن “الفيلم محفوظ في أرشيفات الجامعات العالمية، وتعتبره أحد الوثائق الفيلمية بصيغة روائية، ويقدم أيضا في الدروس السياسية، ليس هذا فحسب، بل إن العروض السينمائية مستدامة منذ ذلك التاريخ سواء في مهرجانات سينمائية أو في عروض ثقافية”.

وبشأن ظروف إنتاجه في ظل الحرب الأهلية اللبنانية، يقول “لم تخفني الحرب الأهلية، فقد كنت أعيش فيها هائما أو مقتولا، لأنني تحررت من جدران المعتقلات وبيوت الأشباح الدكتاتورية العراقية (في عهد صدام)، والعيش أو الموت في الهواء الطلق كان أفضل من البقاء بين يدي مجرم أو مجموعة من السفلة عاثوا في وطني قتلا”.

وعن اختياره لرواية “عائد إلى حيفا” للكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، يقول “اخترتها امتنانا لعلاقتي معه بعد استهدافه ومغادرته إيانا شهيدا بعد أن عملنا سوية في مجلة الهدف، فقررت أن أرد له جميل العمل والمحبة والمعرفة والمعلمية، حيث استشهد بتفجير سيارته في منطقة الحازمية ببيروت، وبكيناه حينها دما لا دمعا”.

ويلفت بالقول “ذهبت في البداية لمخيمات الشمال اللبناني (البداوي والنهر البارد) وعايشتهم شهورا ثلاثة في تقديم المحاضرات واللقاءات مع العائلات الفلسطينية، وتسجيل ذكرياتهم، لكي أقدمهم في الفيلم ليسوا كممثلين كومبارس، بل كي يستعيدوا ذكرياتهم أيام الهجرة المريرة في نكبة عام 1948″، منوها إلى أن “ميناء طرابلس اللبنانية، صار تحت تصرفي لمدة يومين كهدية من قبل دولة رئيس وزراء الحكومة اللبنانية رشيد كرامي، فقمت بتحويله إلى ميناء حيفا في فلسطين”.

ويسرد تفاصيل العمل بالقول، “في البداية كنت بحاجة إلى ممثلة أوروبية تلعب دور اليهودية المهاجرة، فرشح لي صديقي الناقد والرسام الألماني، فولف ريشتر، والذي كتب عني في إحدى كتبه عن السينما العربية، الممثلة الألمانية “كريستينا شورن”، والتي كانت قد حصلت على جائزة الدولة الألمانية عن عموم أعمالها المسرحية والسينمائية، ووافقت على العمل من دون أجور”.

ويشير بالقول “الشخصيتان الرئيستان في الفيلم هما حنان الحاج علي وبول مطر، فالأولى ممثلة مسرحية لبنانية موهوبة لعبت شخصية “صفية” في الرواية، أما بول مطر الذي تعرفت عليه في ستوديو الصخرة (في لبنان) فهو موسيقى، ممثل ومغن، يتقن اللغة الإنكليزية إضافة إلى موهبته الدرامية والموسيقية، أما حكاية الممثل الشاب الذي لعب دور “دوف- خلدون” الطفل الذي نسيه أهله وأجبروا على نسيانه في الهجرة، والمتبنى من قبل الشخصية الألمانية وزوجها فإن حكايته تتمثل في أنه ممثل حالم وموهوب منذ البداية، لكن المخابرات السورية تقريبا كانت تحول دون حصوله على فرصة التمثيل بسبب عدم تعاونه مع أجهزة المخابرات السورية وبحثه عن حياة غير محفوفة بالمخاطر ورغبته الاهتمام في الجانب الثقافي. وقد رشحه لي المخرج الصديق قيس الزبيدي، فوجدت فيه الشخصية الموهوبة، وكانت هذه فرصته الأولى والهامة للانطلاق نحو مجد الإبداع والشهرة التي تفرضها الضرورة”.

وحول الظهور المميز للنجم السوري جمال سليمان في الفيلم، يقول قاسم حول، “طوال هذه السنوات، منذ العام 1980 وحتى الآن، لم يظهر مرة على شاشة فضائية أو يتحدث لصحيفة إلا وذكرني بالخير وبالجميل، إنه إنسان يستحق الشكر، لأن كثيرا من الممثلين الذين فتحنا لهم ستارة الشاشة البيضاء أو الفضية يتمتعون بنكران جميل”.

ويلفت إلى أن “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تصدر مجلة الهدف وترعى تجربتي كسينمائي عراقي من أجل فلسطين، فاتحت الموسيقار الكبير “زياد الرحباني”، لتأليف موسيقى الفيلم، فما كان منه إلا أن وافق بشرط “أن لا يقبل مالا مقابل التأليف الموسيقى”، والتقينا لبحث شؤون الموسيقى والموسيقى العربية وعلاقتها بالسينما. وبعد التصوير صار الموسيقار الجميل زياد رحباني يزورني في قسم السينما ويشاهد ما نسميه “الرشز” المادة المصورة وغير الممنتجة وبعد أن أنتهيت من مونتاج الفيلم الذي عمله الصديق قيس الزبيدي والصديق المساعد عدنان سلوم المنفذ الموهوب لملاحظات المخرج والمونتير باشر الموسيقار الرحباني بتنفيذ نوتات الموسيقى وجملها الموسيقية، وكنت دائما في مقره في شارع الحمرا، أستمع إلى تسجيل الموسيقى التي جاءت منسجمة مع المشاهد التي كانت تحتاج إلى جملة موسيقى أو مسافة موسيقية تتناغم مع تطور أحداث الفيلم”.

وليس لفيلم من هذا النوع، إلا أن يلعب فيه ممثلون فلسطينيون أدوارا واضحة، حيث كان من بينهم الفنان القدير حسين لوباني، والممثل المبدع صلاح عياش، والشخصيتان اللذان لعبا دور خالد وخالدة “عصام سلمون وصفاء مصطفى، كما يقول السينمائي المعروف، لافتا إلى أن “المبدعين علي فوزي والممثل المسرحي العراقي منذر حلمي، لعبا دورين متميزين في الفيلم، لاسيما الأخير الذي سجل أول ظهور على الشاشة، كما لا أنسى الممثل السوري سليم موسى، الذي لعب دور المهاجر اليهودي البولندي”.

وعن ظروف التصوير ومتاعبه، يقول “كنت قد جهزت للمشهد المتعلق بالهجرة والزوارق والمراكب العسكرية البريطانية، طائرة هليكوبتر للمصور مع علمي بأن الطيران الإسرائيلي يحلق باستمرار في المنطقة، ما جعلني في حالة أرق حاول خلالها مدير الإنتاج إقناعي بالنوم لبضع ساعات، كي أصحو نشطا وأسيطر على مشاهد تضم ما يقرب من ثلاثة آلاف من الكومبارس، والسيطرة على حركة الزوارق والمراكب البريطانية والتصوير من الجو، وكان الاتصال يتم عبر أجهزة المكالمات اللاسلكية”.

ويكمل “عندما أنهيت تصوير المشهد الكبير والمشاهد الخارجية والانفجارات وسافرت إلى دمشق لتصوير المشاهد الداخلية التي صممتها عبر الكرين/ الرافعة، صدمت بأن الرافعة غير صالحة للتصوير، ما جعلني أغير طبيعة اللقطات وكنت منزعجا يومها، حيث لا توجد في سوريا سوى هذه الرافعة للتصوير”. 

وبردف، “عندما أكملنا التصوير كانت نساء مخيمات الشمال اللبناني في مخيم النهر البارد منشغلات في تصميم وحياكة وخياطة أجمل ثوب فلسطيني تراثي ليقدم كهدية للممثلة التي تبرعت بعملها من أجل فلسطين، فأهديناها الثوب، وصادف ذكرى ميلاد ابنتها فأهديناها سلسلة ذهبية مع خارطة فلسطين مذهبة ومطعمة بالمينا.. وكنت قد طلبت من المحاسب أثناء الصرف أن يوفر 10 آلاف دولار، كمكافأة لها، حيث ودعتنا بالدموع، وحين عادت إلى برلين وضعت مجلة المجلة الألمانية والصادرة باللغة العربية صورتها على الغلاف وكتبت “كرستينا شورن مثلت فيلما مع منظمة التحرير الفلسطينية”، يومها كانت خارجة من سيارتها فرصدها شخص يبدو كانت تحت مراقبته، وضربها على رأسها بأداة صلبة، فسقطت مغشيا عليها لتنقل إلى المستشفى ومكثت ثلاثة شهور”، متهما “الموساد (المخابرات الإسرائيلية) بالوقوف وراء الحادثة من خلال أذرعه المنتشرة، وهم لا يوفرون إنسانا يحب فلسطين أو يعمل مع الفلسطينيين لصالح قضيتهم المتمثلة بالتحرير الفلسطيني.

الممثلة الألمانية “كرستينا شورن” بطلة فيلم قاسم حول “عائد إلى حيفا”

سر الاهتمام بفلسطين

وحول سر اهتمامه بفلسطين، يقول “أنا من مواليد 1940 وكان عمري ثماني سنوات عندما تم الإستيلاء على فلسطين وتحديدا في 15 أيار 1948، حيث كانت مشاعرنا نحن العراقيين ملتهبة بالشعور القومي والوطني، وقد تشكل وعيي منذ تلك الفترة، حيث أتذكر أستاذ اللغة الإنكليزية الذي كان يدرسني في المدرسة الأمريكية في البصرة وهو يعتلي منصة تمثال أسد بابل في إحدى ساحات المدينة، وأنا حتى الآن أتذكر كلماته، والناس متجمهرة حوله في الساحة وهو يخطب قائلا “هل من المعقول.. صهيون تعطى بلادا قدست طول الزمان.. وبأي شريعة.. وفي العام 1969 عندما غادرت العراق، وذهبت للالتحاق بحركة المقاومة الفلسطينية، وعملت في مجلة الهدف التي يرأس تحريرها الكاتب والروائي الكبير غسان كنفاني”.

ويعرج في ختام هذا الحوار القصير، إلى المصور الفوتوغرافي الذي وثق مسيرة الفيلم، حيث يقول “زارني شاب لبناني أنيق وهادئ يعمل في المؤسسة الإعلامية التابعة لحزب العمل العربي الاشتراكي، وعرف نفسه باسم: كمال حداد، وطالبني بدروس في التصوير، فأدخلته في الدورات التي كنت أجريها بين الفينة والأخرى، وصار يعمل معي بشكل أساس، وساعدته في تقاضي راتب من قسم السينما، وصرنا أصدقاء، فأصبح مصورا فوتوغرافيا مبدعا يخوض معي المعارك الصعبة خلال أيام الغزو الإسرائيلي للبنان أو في المواجهات خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وحين أخرجت فيلم “عائد إلى حيفا” كان هو مصور الفيلم الفوتوغرافي، فصور لي أجمل لقطات الفيلم، وحين غادرت المقاومة الفلسطينية الأراضي اللبنانية بقرار دولي عمل معي في سوريا، وأخذته معي إلى اليونان لمواكبة مونتاج فيلمي “مجزرة صبرا وشاتيلا”، وواكب تجربة الفيلم حتى حين التقيت الأسرى الإسرائيليين في “صحراء ما.. وتحت الأرض بمسافات عميقة” كان يصور تجربتي في حواراتي مع الضباط الأسرى، وحين أخرجت فيلم “السلام عليكم” للتلفزيون الهولندي زارني في بيروت، وطلب أن يعمل معي أيضا لأنه عاطل عن العمل فعينته في هيئة الإنتاج وساعدته وفاءً لتاريخه الشخصي، وقد طلبت من وكالة أنباء لبنانية أهلية أن يساعدوه في العمل معهم في هيئة الإنتاج.. وبعد أن عدت إلى هولندا واتصلت مع وكالة الأنباء اللبنانية لأتأكد من أنه التحق بهم، أخبروني أن السلطات اللبنانية وجدته منتحرا في بقايا بناية مهدمة خلال الحرب الأهلية اللبنانية.

إقرأ أيضا