رسالة من غزة: شاهد عيان على التطهير العرقي والإيمان بالإنسانية

المادة مترجمة للكاتبة والقاصة الأمريكية ريبيكا روث غولد

على الرغم من أنني لست في غزة، كما هو الحال بالنسبة لكثيرين، إلا أن قلبي موجود هناك منذ تشرين الأول 2023. ومنذ شباط 2023، شاركت في مراسلات مكثفة مع شخص يتواجد هناك. ولهذا الشخص رؤية ثاقبة وحكيمة ومتفهمة. وبالنظر إلى سجل إسرائيل في استهداف المدنيين الفلسطينيين الذين يجاهرون برأيهم في انتقاد الإبادة الجماعية، حرصت أن أتكتم على اسمه.

صديقي بحار عبر المسطحات المائية حول العالم عدة مرات قبل أن يعود إلى غزة. ولديه خبرة في مجال الخدمات اللوجستية البحرية على وجه التحديد. ويمكن الاستفادة منها في توزيع المساعدات في غزة. وأنا مدينة جدا لهذا الشخص، الذي وجد الوقت خلال مهام الإنقاذ، وبالرغم من الخدمة المتقطعة للإنترنت، ليشاركني أفكاره وتجاربه حول الحياة في غزة الآن. وقد أتاح لي الوصول إلى حقيقة ما يجري على الأرض ولا يمكن لأي مصدر إعلامي آخر توفيرها. والأهم من ذلك أنه سمح لي أن أرى قابلية المرء للاحتفاظ بإنسانيته وهو وسط هذه الإبادة الجماعية.

فيما يلي أجزاء من مراسلاتنا التي تلقي الضوء على ما يحدث في غزة حاليا. على الرغم من تقديمها كما لو كانت ردا على أسئلة محددة، فقد تم تركيبها وتجميعها من عدة مراسلات سابقة. كل كلمة مقتبسة من صديقي في غزة وردت على لسانه، وأشارك لها بإذن منه. وأضفت بعض الروابط لمصادر إعلامية تثبت ادعاءات صديقي كلما اقتضت الضرورة. 

أود أن ألفت انتباه أعضاء مجلس الشيوخ في ولاية أوريغون إلى هذه الرسالة من غزة، وعلى وجه التحديد،  السناتور جيف ميركلي والسيناتور رون وايدن.

لسوء الحظ، حتى الآن لم يدع غير ميركلي إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة، لكنني آمل أن يهتم كلا السيناتورين برؤى صديقي في غزة، خاصة فيما يتعلق بتوزيع المساعدات الضرورية للحياة. وسأكون ممتنة أيضا لو تمكن الآخرون من نشر الحوار والتواصل مع ممثليهم المنتخبين، بغض النظر عن مدى الإحباط المتوقع.

*لماذا عدت إلى غزة؟

– أتيت إلى غزة لمساعدة شعبي في هذه الأوقات العصيبة. وما زلت مصرا على التزامي بالمهمة. يمكنني مغادرة غزة في أي وقت أريد. أنا هنا وهذا كان ولا يزال خياري وقراري.

دخلت غزة بعد بدء الغارات الجوية وقبيل بدء العمليات البرية. قررت أن أكون في غزة لأنني أعرف أنني أستطيع مساعدة الأبرياء هنا. لقد خضعت لتدريب مكثف في عمليات الإنقاذ، والدراسات الطبية المتقدمة، والإغاثة الميدانية، ومكافحة الحرائق – وخاصة الحرائق الكيميائية – وأرى أن هذا مفيد للغاية في غزة في الوقت الراهن.

أيضا ، أنا هنا لأن هذا هو المكان الذي أنتمي إليه. لدي عائلة وأصدقاء وتاريخ هنا. هذا بحري وأرضي وسمائي. أنا هنا لأنه المكان الذي تشتد حاجته لي. هذا هو المكان الذي يمكنني أن أعطي فيه أكثر.

*ماذا كنت تفعل منذ عودتك إلى غزة؟

– بالإضافة إلى مؤهلاتي وخبرتي كبحار أول، فأنا قائد فريق مؤهل في عمليات الإنقاذ، ومسعف طبي ميداني وخبير في مكافحة الحرائق، وخاصة الحرائق الكيميائية. مع الحرب المستمرة الناس هنا بحاجة لي. لن أغادر وأتركهم بمفردهم. عندما تحتاج غزة إلي يجب أن أستجيب لندائها.

*هل أنت قلق على سلامتك؟

– لقد تمكنت حتى الآن أو ساعدت في إنقاذ عدد قليل من الأرواح البريئة. ونجحت في إخماد أكثر من 247 حريقا، وأنقذت أكثر من 193 شخصا، معظمهم من النساء والأطفال من تحت أنقاض منازلهم أو ملاجئهم. وساعدت أيضا في 8 ولادات كانت فيها الأمهات والأطفال آمنين لحسن الحظ. ونجحت في علاج العديد من الجرحى وساعدتهم على النجاة من حروقهم واصاباتهم الشديدة. ألا يستحق هذا المخاطرة؟

*ما رأيك في اقتراح بايدن بإيصال المساعدات إلى غزة عبر السفن في البحر الأبيض المتوسط؟ كيف يقارن هذا بالخيارات الأخرى لتقديم المساعدات؟.

– بصفتي إنسان على الأرض وخبير بالخدمات اللوجستية البحرية والشحن، يمكنني أن أؤكد أن هذا هو آخر شيء له حظ بالنجاح. الترتيب اللوجستي الوحيد الذي يمكن أن ينجح هو فتح المعابر البرية من مصر وإسرائيل إلى غزة والسماح بدخول جميع الشاحنات التي كانت تنتظر الدخول منذ أسابيع وشهور في بعض الأحيان.

والهياكل الأساسية والموارد البشرية اللازمة للوجستيات البرية موجودة بالفعل. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة للخدمات اللوجستية في غزة على مدى العقود العديدة الماضية. نعم، صحيح أن البنية التحتية مثل الطرق والمستودعات ومرافق التوزيع قد تضررت بشدة، ولكن يمكن جعل هذه الطريقة قابلة للتطبيق واستخدامها بسرعة أكبر من المساعدات المقدمة من خلال الخدمات اللوجستية البحرية.

ضعي في اعتبارك: إذا خاطر صياد جائع يعيش في غزة بحياته، وأحضر قارب الصيد الخاص به إلى البحر للحصول على شيء لإطعام أسرته ستعترضه البحرية الإسرائيلية – كما تفعل عادة – وتطلق النار عليه. لذلك من المؤكد أن عمليات البناء ستتوقف حتى يصبح استئنافها آمنا. هناك العديد من الأسباب والظروف المحتملة لتأخير التشغيل.

*هل لديك أي نصيحة حول ما يجب فعله إذا أصر بايدن على هذه الخطة؟

– إذا كان بايدن يخطط لبناء رصيف عائم مؤقت أو ميناء مؤقت، سيستغرق الأمر 60 يوما على الأقل بعد وصول  يو إس إس جنرال فرانك بيسون إلى وجهتها قبالة سواحل غزة، وفقا لبيان صحفي صادر عن وزارة الدفاع. وهذا ممكن فقط إذا تعاونت إسرائيل بشكل كامل. وإذا كان بايدن وعصابته لا يزالون يريدون الذهاب عن طريق البحر، فأنا، بصفتي خبيرا في الخدمات اللوجستية البحرية، يمكنني أن أقدم لهم المشورة العملية لاستخدام سفن الإنزال بدلا من بناء رصيف أو ميناء مؤقت.

تتوفر سفن الإنزال، على نطاق واسع، في البحرية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي بالإضافة إلى مشغلي الشحن والخدمات اللوجستية الخاصة الذين لديهم سفن خاصة يمكن إيجارها أو بيعها.  لا تتطلب سفن الإنزال أرصفة أو موانئ لتسليم بضائعها. يمكنهم ببساطة إنزال حمولاتهم في أي مكان آمن على شواطئ غزة. يمكن أن يبدأ استخدام سفن الإنزال على الفور إذا أراد بايدن. وهو لا يحتاج إلى بناء أي شيء.

*هل يخشى الناس في رفح أن يأمر نتنياهو الجيش الإسرائيلي بغزو المدينة، كما كان يهدد؟

– نعم، بالتأكيد، الخوف يخيم على سكان رفح. أنا في رفح وأستطيع أن أرى الخوف في عيون الجميع. ومما لا شك فيه أن غزو رفح سيؤدي إلى دمار واسع النطاق وخسائر كبيرة في أرواح المدنيين، تتجاوز بكثير المستويات التي شهدتها مناطق أخرى من قطاع غزة حتى الآن.

ارتفعت الكثافة السكانية في رفح وأصبحت الأعلى على هذا الكوكب بسبب تدفق النازحين من أجزاء أخرى من قطاع غزة. لذلك، فإن أي توغل عسكري، خاصة بالنظر إلى قواعد الاشتباك المعروفة لجيش الدفاع الإسرائيلي، سيؤدي حتما إلى عدد مخيف من الضحايا المدنيين. وإلى جانب الحصار المستمر والنقص الحاد في الموارد الأساسية، ستكون النتيجة كارثية حتما.

*كنت تحتمي في مستشفى ناصر قبل أن تضطر إلى المغادرة. هل يمكنك وصف كيف كان الحال في المستشفى؟

– أتمنى لو لدي القدرة على حذف أيامي في مستشفى ناصر داخل خان يونس من ذاكرتي. ليس فقط بسبب المصاعب التي واجهتها ولكن بسبب معاناة المرضى الذين يعرفون مصيرهم بسبب نقص الضروريات الأساسية وبسبب الإحباط المؤلم الذي رأيته على وجوه الطاقم الطبي. فقد كانوا عاجزين وغير قادرين على تلبية احتياجات مرضاهم. أيضا بسبب الخوف العميق الذي شعر به الجميع من الحصار المستمر والغارات وقناصة جيش الدفاع الإسرائيلي.

لم يكن أحد آمنا. لا المرضى ولا الطاقم الطبي ولا المدنيين النازحين أو حتى فرق الإنقاذ التي كنت جزءا منها. وأضيف لكل ذلك الظروف المعيشية المستحيلة التي كانت سائدة.

في مستشفى ناصر كان لدينا حوالي 300 من الطاقم الطبي و450 مريضا وعدد لا يحصى من الجرحى الذين تم نقلهم ليموتوا هناك بسبب عدم وجود كل ما يلزم لمساعدتهم، وكان لدينا أكثر من 10000 مدني نازح، معظمهم من النساء والأطفال. إلى جانب كل هذا، انقطعت المياه والغذاء والكهرباء والوقود والاتصالات. وتحول المستشفى إلى فخ الموت.

سافرت في حياتي كثيرا ورأيت أشياء قبيحة ومؤلمة ومفجعة لا يمكن وصفها بمجرد الكلمات، ولكن ما مررت به في مستشفى ناصر هو أسوأ من أي شيء رأيته.

*هل شاهدت الفظائع التي وقعت في مستشفى ناصر في 16 فبراير 2024  والتي أبلغت عنها BCC وغيرها من وسائل الإعلام؟.

– نعم. ما حدث على الأرض في ذلك اليوم وبقية الأيام كان أبشع بكثير، وأكثر إجراما ودون أي مشاعر إنسانية، ويزيد على ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية في مقالتها. اقتحمت قوات الدفاع الإسرائيلية المستشفى – والأصح ما تبقى منه – واعتقلت الموظفين الطبيين والمرضى وبعض المدنيين المشردين الذين تم اختيارهم عشوائيا ووضعتهم في مبنى قديم صغير داخل المستشفى بدون ماء أو طعام أو حليب للأطفال.

وقد زهقت الأرواح في هذه العملية. الكثير من الأرواح. لا أعرف العدد الدقيق، لكنني متأكد من أن سجلات المستشفى يمكن أن تخبرنا. أعتقد أن الرقم لا يهم حقا ، فالقسوة نفسها هي المعنية هنا.

لكن يجب أن أقول إنه وسط كل هذا استطعت أن أرى وألمس إنسانية رقيقة في أفضل حالاتها.   رأيت الأطباء يبكون على مرضاهم. رأيت أطباء يخبزون الخبز لإطعام المرضى والمصابين. رأيت أمهات يحملن أطفالهن الموتى ويشكرن الله على نعمه. رأيت الأمومة المشتركة. رأيت نازحين يتشاركون على كل شيء متاح وبمحبة. رأيت أطفالا يكبرون قبل وقتهم. رأيت شابا مصابا فقد ساقيه كلتيهما ويحاول التحرك وترك مكانه لصبي آخر مصاب لا يمكنه أن يتنفس إلا بصعوبة. عندما سألته ماذا يدفعه لذلك أجابني: “لأنني أستطيع التنفس بشكل أفضل منه، فهو يحتاج إلى الراحة أكثر مني”.

أحد الأشخاص الذين تركوا بصمة خاصة على روحي فتاة تبلغ من العمر خمس سنوات. أصيبت وفقدت ذراعها اليسرى في قصف دبابة بالقرب من منزلها. التقيت بها عندما كانت مع أختها على أرضية أحد ممرات المستشفى. وكانت تتحمل مسؤولية الاهتمام بها يوميا. بالطبع كانت تعرف أنها فقدت ذراعها. ذات مرة، بعد أن تعافت، سألتني قائلة بالضبط: “عمو، هل ستنمو ذراعي مرة أخرى وتصبح كما كانت من قبل؟”

لم أعرف ماذا أقول لها. جمدت، وهذا رد فعل غير شائع بالنسبة لي. لم أكن أريد أن أعطيها أملا كاذبا وفي الوقت نفسه لم أرغب أن أفطر لها قلبها. لذلك أخبرتها أن لا تقلق بشأن ذلك. قلت إنه بعد أن تلتئم جراحها وتتوقف الحرب سآخذها إلى بلد آخر وأعطيها ذراعا جميلة مثل ذراعها التي اختفت وأقوى منها أيضا.

هذا وعد أعتزم الوفاء به سواء نجوت من هذه الحرب أم لا. فقد قمت بترتيب بدائل لهذه الفتاة للحصول على ذراع أخرى إذا لم يكتب لي النجاة.

ورأيت الكثير من الأشياء التي لا أنساها أبدا. ومع ذلك، وسط الألم شعرت بمزيد من الإنسانية، واكتسبت أيضا قوة. على الرغم من أنني لا أستطيع أن أشرح لماذا.

*هل يحتمي الكثير من الناس في مستشفى ناصر الآن؟

 – أخليت مستشفى ناصر إلى رفح، حيث أنا الآن. عندما غادرنا، كان المرضى والموظفون لا يزالون يحتمون في المستشفى. وعلمت أنهم لا يزالون هناك الآن. ولا أعرف العدد الدقيق.

*هل يمكنك تمييز أي استراتيجية في الهجمات الإسرائيلية؟

 – إنهم يستهدفون نخبتنا. وفقدنا حتى الآن العديد من أفضل المعلمين والأطباء والباحثين والفنانين. وهم في الواقع يختارون النخبة بيننا تحديدا ويغتالونهم. ونحن نعرف هذا.

*كيف تمكنت أنت وسكان غزة من الحفاظ على إنسانيتكم وسط هذه الإبادة الجماعية؟

– يجب ألا نسمح لهذه الآلام وهذه المعاناة والخسارة أن تحدد مستقبلنا. يجب أن نحرس إنسانيتنا ونحميها ونحافظ عليها على الرغم من كل الألم والمعاناة التي نواجهها. ماذا يمكن أن يؤول إليه حالنا إذا لم نفعل ذلك؟

*هل لديك أي رسالة لبايدن وزملائه؟

– غزة لا تحتاج إلى تعاطف بايدن المفاجئ على الإطلاق. ما نحتاجه منه هو وقف دوره السلبي في هذه الإبادة الجماعية المستمرة. من الواضح أن السبب الوحيد وراء التعاطف المفاجئ لبايدن وعصابة أنهم يريدون تحسين صورتهم مع اقتراب الانتخابات. خاصة لكسب الأصوات غير الحزبية التي حصل عليها بايدن في ما يعتبر معاقل الديمقراطيين. يمكن لبايدن أن يوقف هذه الإبادة الجماعية في مكالمة هاتفية قصيرة والجميع يعرف ذلك. آسف لهذا الكلام،  جريمة الإبادة هذه هي مسؤولية بايدن.

في ختام هذه الرسالة من غزة التي حررت عام 2024، أذكركم بـ  “رسالة أخرى من غزة”، كتبها الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني قبل ستة وستين عاما، في عام 1956. في حين أن رسالة كنفاني وردت ضمن قصة خيالية، إلا أنها ضمنت لنفسها مكانا عميقا في الواقع الفلسطيني، ولها علاقة بهذه الحرب الدائمة. كما يقول الفرنسيون، كلما تغيرت الأشياء زاد ثباتها وديمومتها. وأذكركم برسالة الناقد الفني والكاتب جون بيرغر والمعروفة باسم “رسالة من غزة 2008”.

ريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould باحثة وقاصة أمريكية. أستاذة الأدب المقارن في جامعة لندن. مؤلفة كتاب “إلغاء فلسطين” الصادر عن دار فيرسو الأمريكية.

منشورة في موقع ميديوم – زاوية “Injustice”.

ترجمة صالح الرزوق بإذن من الكاتبة غولد/  تمت الاستعانة ببرنامج الذكاء الصناعي AI جزئيا.

إقرأ أيضا