كيف نستخلص الحقائق من خرافات جداتنا

نعم، يمكننا أن نستخلص الحقائق من خرافات جداتنا بطريقة الروائي الجزائري واسيني لعرج: استمتعت مساء أمس بمشاهدة لقاء مع الروائي الجزائري واسيني لعرج وهو متحدث لبق وممتع وقد توقفت عند قضيتين ذكرهما: الأولى هو أنه تحدث عن جذور عائلته الفقيرة الأندلسية وكيف جاءت واستقرت بإحدى قرى تلمسان في الجزائر، بعد انهيار الدولة العربية الإسلامية في الأندلس. قال لعرج إن إحدى جداته كانت تقول حين تسأل عن أصولهم الأندلسية وكيف جاءوا إلى الجزائر أن جدهم الأبعد – حين تقرر طرد العرب والبربر المسلمين واليهود في القرن السابع عشر من الأندلس – كان يعيش في حي بايزيني في غرناطة وهو حي ما يزال قائما إلى اليوم وكانت له فيه دار ومكتبة ضخمة وكانت لديه خادمة أو “عبدة” كما يسمونها باللهجة المحلية، فأعطته قطعة خشب وقالت له أعبر بهذه الخشبة إلى “العدوة الأخرى” الجهة الأخرى من البحر وعد إلى قومك وهذا ما حدث وعاد ووصل إلى ميناء أرشكون الذي لم يعد قائما اليوم.

بعد سنين وعقود، وفيما كان لعرج يتجول رفقة زوجته في مكتبة كبيرة ذكر اسمها عثر على كتاب بعشرة مجلدات عن المورسيكيين “العرب والبربر المسلمين” وكيف هربوا من الاضطهاد الإسباني في الأندلس. واختار واسيني أحد مجلدات الكتاب بمحض الصدفة وقرأ فيه فصلاً عن تلك الأحداث فوجد أن سفينة من مجموعة سفن إيطالية كانت تساعد الفارين العرب الأندلسيين إلى الشاطئ المغاربي وتوصلهم إلى ميناء اسمه أرشكون … والعجيب أن إحدى هذه السفن كان اسمها عبدة (ABDA)! ويقول لعرج: “وفجأة تذكرتُ حكاية جدتي عن الوصيفة عبدة التي تعاطفت مع جدنا وألقت له بقطة خشب، هي هنا كناية عن السفينة، ووجدتُ أن الأمر يتجاوز الخرافة التي حكتها الجدة وإننا يمكن أن نقرأ ونحلل ما يعتبر خرافة لنجد فيه جزءاً من الحقيقة وأن التأريخ مفروش بهذه “الخرافات/ الأساطير” وأن علينا أن نبذل جهدا تحليليا لنصل إلى ما وراءها من حقائق”!

القضية الثانية في حديث لعرج التي توقفتُ عندها هي ما قاله عن الجذور العربية الاستلهامية وليس الاستنساخية لرواية سرفانتس (1547 -1616م) الشهيرة “دون كيخوطة/ دون كيشوت”، والتي تعتبر الكتاب الأهم باللغة الإسبانية والذي إليه يعود الفضل في تشكل وتكوين اللغة الإسبانية المعروفة اليوم “القشتالية” بعد أن كانت لهجة من لهجات في المنطقة. ويقول لعرج أن سرفانتس مؤلفها أشار بنفسه إلى تلك الجذور الاستلهامية حين ألفها قال إنه عثر على مخطوطة قصة مكتوبة بالعربية بقلم شخص اسمه حامد بن منجلي” وهو اسم عربي وطلب من صاحبها بعد أن اشتراها منه في سوق شعبي في غرناطة أن يأتي ويترجمها له في بيته مقابل معلوم نقدي فوافق على ذلك. ولكن هذه المعلومة لا تعني بالضرورة أن المؤلف عربي بل هي طريقة روائية لحكاية النص على لسان شخص آخر وهناك من يعتقد أن سرفانتس كتب روايته حين كان سجينا في مدينة الجزائر بتهمة جنائية مالية. ما لفت انتباهي هو أن هذه الفقرة غير موجودة في الترجمات العربية لرواية سرفانتس – وقد راجعت أكثر من ترجماتها العديدة إلى اللغة العربية وأنا من عشاق الدون القدماء – ولا أدري هل حذفها المترجم العربي لسبب ما أو أن الناشر الإسباني المعاصر أو المترجم للرواية إلى لغة وسيطة كالفرنسية هو الذي حذف هذه المعلومة. أكد معلومة واسيني هذه شادي روحانا في مقالته المهمة “سرفانتس والعرب وفيها ولكن بتفاصيل مختلفة جزئيا ولكنها هي نفسها من حيث الجوهر.

*بالمناسبة واسيني هو ابن أحد شهداء الثورة الجزائري وكان أبوه نقابياً عماليا معروفاً ترك فرنسا والتحق بالثورة ثم قتله الجنود المظليون الفرنسيون تحت التعذيب وما يزال جثمانه أو قبره مجهولا حتى اليوم. وكان واسيني قد وجه رسالة الى الرئيس الفرنسي الحالي يطالب فيها بمعرفة مصير والده وكيف اغتيل ومكان جثمانه قبل فترة ولكنه لم يستلم جوابا من ماكرون حتى الآن!

وفي المناسبة فواسيني لعرج – الذي يعمل أستاذا جامعيا الآن في جامعة السوربون الفرنسية – من القلة المثقفة العربية التي رفعت صوت الاحتجاج ضد حرب الإبادة الصهيونية والتضامن مع الشعب الفلسطيني فاعتبر – في تصريحات صحافية له – ما يجري في غزة اليوم من قتل ودمار بمثابة “جريمة إبادة” لا يمكن تبريرها، مستنكرا الموقف العربي الرسمي مما يحدث في غزة. وأضاف “إنه زمن متوحش جديد…أن الحس البشري لم يعد موجودا” ويختم بالقول لقد “استيقاظ العمق المتوحش الحيواني في إسرائيل وأصبح مطلق الحرية”.

*المقابلة بثت مساء أمس ولكني عثرت على تسجيلها على اليوتيوب … هنا، رابطها:

إقرأ أيضا