فعلتها إيران.. ماذا بعد؟

يقال في مواقف المواجهة والحروب، إن جعل العدو ينتظر الرد يكون أكثر وقعا من تنفيذ الانتقام نفسه، في قاعدة “رمزية” قد ينتهي عندها تاثير الرد وقوته، وتصبح “الصدمة” اقل تاثيراً عند تنفيذ التهديدات وتتحول لمجرد “صفعة” لا تتعدى بعنوانها “حفظ ماء الوجه” وتاريخنا الحديث وعمليتنا السياسية حافلة بالكثير من الأمثلة وخاصة في قضية الدفاع عن السيادة والتي تنتهي في اغلب الأحيان بترضية خلف الكواليس.

ولان لكل قاعدة شواذ فتلك “الثابتة” يمكن استثنائها برد “غير متوقع” بعد نحو عشرة ايام من الانتظار اختارت ايران طريقة “الثأر” لاستهداف سفاراتها في العاصمة السورية دمشق، بمسيرات وصواريخ تجاهلت جميع التحذيرات الأمريكية ومنحت الكيان الغاصب اياما على عدد اصابع اليدين كان يعيش خلالها لحظات من الترقب والقلق يشاركه فيها البيت الأبيض، فموعد الضربة لم يكن معلوما وكيفية تنفيذها وأدواتها كانت خارج مرمى تفكير الكيان وحلفائه “المطبعين” الذين كانوا يعتقدون بان طهران حتى لو ردت ستكتفي باستخدام بقية اضلع المحور بهجمات من خارج اراضيها، وبأحسن الاحوال كان اعتقادهم بان القيادة الإيرانية ستتخذ القرار بعملية محدودة وبأعداد بسيطة من المسيرات قد لا تصل أهدفها داخل الكيان وتقتصر على قواعد او معسكرات حدودية.

لكن.. الجارة الشرقية كسبت الجولتين، مرة حالة الرعب في الانتظار والحرب النفسية التي اجبرت الكيان على إخلاء سفاراته بنحو 20 بلدا، وايقاف النظام التعليمي وقطع أنظمة التتبع (GPS)، ومنع مواطنيه من التجمعات وحظر وجودهم ببعض المناطق، والمرة الثانية حينما غادرت المسيرات وبعدها الصواريخ باتجاه الأراضي المحتلة وهي “تتبختر” في سماء العراق وسوريا والأردن بأعداد تجاوزت إحصائياتها نحو مئة وخمس وتسعين طائرة مسيرة وستة وثلاثين صاروخا نوع كروز ومئة وعشرة صواريخ بالستية يقال عنها (ارض- ارض)، لتشكل مفاجأة اصابت الكيان ومن يسانده “بالذعر” وجعلته يشعر بالندم على استهداف سفارة طهران في دمشق، ودفعت الرئيس الأمريكي جو بايدن “لتوبيخ” رئيس وزراء الكيان نتنياهو خلال اتصال هاتفي تزامن مع استمرار تساقط الصواريخ والمسيرات، ليخبره بايدن بالتزام الصمت والابتعاد عن القرارات الفردية، والتي كانت واضحة على ملامح نتنياهو في اول صورة نشرت له بعد الرد الإيراني وهو يهاتف الراعي الرسمي للبيت الأبيض، وهذا بحد ذاته انتصار وتحقيق واضح لاهداف “الضربة” فمن يتساءل عن النتائج ولماذا لا يعلن عن وجود خسائر بالارواح وقتلى من الجانب الاسرائيلي، الجواب سيكون، ماحصل اكبر من وقوع خسائر بشرية.. لان تاثير الرد سيخلق سياسية جديدة في التعامل مع الكيان ومن يدعمه.

ياسادة… واهم من يعتقد بان إيران لم تتخذ كافة التدابير والاحترازات الضرورية قبل إطلاق صواريخ “الانتقام” التي استقبلها اهالي فلسطين بالتكبيرات والتصفيق، فالمشاهد التي نشرت من الأراضي المحتلة لعباد الله وهم يشاهدون الصواريخ والمسيرات ومنها التي مرت فوق المسجد الأقصى يدرك حجم “المأساة” التي يعيشها اهلنا وحاجتهم لمن يحررهم بعيدا عن لونه ومذهبه، لكننا في ارضنا العربية للأسف لم نستطع مغادرة هذه العقدة، فانقسمنا بين من يبكي “فرحا” واخرون يتصارخون ضد ايران وكأن المسيرات تسقط على رؤوسهم وليست على قتلة الشيوخ والأطفال والنساء، ليتصدى العديد منهم في اختيار صفحات مواقع التواصل الاجتماعي للتقليل من اهمية الضربة وجودتها، وبعضهم يشجع على التصدي للمسيرات وإسقاطها قبل وصول اهدافها كما فعلت الأردن باعتراض طريق عدد منها، في قصة ليست غريبة، فالدولة العربية التي تقودها أسرة ملكية، لديها اتفاقية موقعة في العام 1994، تحت عنوان “وادي عربة” تلزم جيراننا بالدفاع عن امن الكيان والتضحية بحقوق الشعب الفلسطيني مقابل “صيانة” كرسي الملكية.

الغريب.. في تلك الاحداث تحقق العديد من النظريات التي وضعها علي الوردي عن سلوكيات المجتمع وتصرفات الفرد العراقي، والتناقضات في المواقف… فمثلا.. من كان يطالب ايران بالرد ويتهمها بأداء دور الجبان، حينما وصلت أخبار الرد وأصوات الصواريخ، أطلق سلسلة من الشائعات تشكك بالهجوم، ويفسره بوجود اتفاق مسبق بين تل ابيب وطهران برعاية أمريكية، يضمن الرد الإيراني “تحت الحزام”، ثم سرح خياله بعيدا بمعلومات يطلقها عن موعود وصول المسيرات لاهدافها والتي قدرها بتسع ساعات، لكن حينما تسأله عن الصواريخ التي اطلقها صدام حسين في حرب الخليج ضد اسرائيل، “يتبسم ضاحكا” ويطلق عبارت المديح والثناء، في ازدواجية تعتبر ماركة مسجلة للمواطن العربي.

الخلاصة أن إيران ورغم بعض الملاحظات على سياساتها، فعلت ماعجزت عنه الدول العربية والإسلامية وحققت احلام الكثير من الشعوب الحرة، وأحرجت الحكومات المطبعة بردها على الكيان الذي تلقى الضربة “القاسية” الثانية بعد السابع من اكتوبر و “طوفان الأقصى” وتمكنت خلال ردها الذي استمر خمس ساعات من تثبيت سياسة الردع للكيان في المنطقة، وفضح الوجه القبيح “للمجتمع الدولي” حينما هرول مجلس الامن لعقد جلسة طارئة لترضية “ابنته المدللة” وخرج علينا صارخا رئيس الوزراء البريطاني ليصف الرد الإيراني “بالمتهور ويتهم طهران بمحاولة زرع الفوضى في المنطقة”، على اعتبار ان إسرائيل حمامة السلام، ومجازرها في غزة “خدعة بصرية”.. اخيرا.. السؤال الذي لابد منه.. هل انتهت خرافة البقرات الأحمر؟.. وماذا بعد الوعد الصادق؟.

أقرأ أيضا