ناجي العلي.. واسمه حنظلة!

ولد ناجي العلي حيث ولد السيد المسيح عليه السلام بين طبرية والناصرة في قرية الشجرة في الجليل الشمالي، هجر من هناك عام 1948 وكان عمره عشر سنوات، وأقام في مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا.. هذا وقد كتب ناجي العلي يوما يقول:

“إن تلك السنوات العشر أكثر ما اذكره من بقية عمري، فالعشب والحجر والظل والنور لا تزال ثابتة في محجر العين كانها حفرت حفرا، لم يخرجها.. كل ما رأيته بعد ذلك. وأنا ارسم، لا أكتب أحجية، لا احرق البخور، ولكنني ارسم، واذا قيل ان ريشتي مبضع جراح، اكون حققت ما حلمت طويلا بتحقيقه، كما انني لست مهرجا، ولست شاعر قبيلة، اي قبيلة.. انني اطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائما ان تعود ثقيلة، ولكنها تكفي لتمنحني مبررا لان احيا..

متهم بالانحياز، وهي تهمة لا انفيها، أنا لست محايدا، أنا منحاز لمن هم تحت.. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التظليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بايديهم سلاسلهم ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذا للسلاح الذي يستخرجون منه شمس الصباح القادمة من مخبئها، ولكن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات.. وسأكمل بالكتابة عنه وعن مفاعلات الثورة”.

إنه ناجي العلي رسام الكاريكاتير الذي خط بريشته شخصية حنظلة تلك الشخصية الأسطورة والرمز الفني والوطني الذي تابعه الأحرار وتحير في فهم أبعاده الأعداء، فهو لغز تعبوي يدخل النفس دونما استئذان، ويوميا كنا نشتري الجريدة في بيروت عند اول الصباح ونحن ننتظرها في مقهى (الدولتشا فيتا) مقابل صخرة الروشة لنتابع الموقف الفلسطيني والعربي او مقهى الهورس شو بـ”الحمرا” وكان ابرز روادها من الكتاب والمحللين السياسين هم مارك رياشي ومشيل ابو جودة وفواد مطر وعبد الكريم نصر وغسان تويني و من خلال شخصية حنظلة وشخوص القادة العرب مكتنزي الأرداف، ودائما فلسطين يرمز لها ناجي العلي بالمرأة الجميلة بثوبها الفلسطيني التراثي. بالضبط كما تغنى توفيق زياد بها بشعره الوجداني عندما تغزل بفلسطين ورمز لها بالمراة الجميلة وهي هكذا فلسطين عندما يقسم بشعرها فيقول وحق شعرك يا محلولة الشعر كانه الليل منعوف على الفجر وعزة الحب في عينيك مشرقتا وعنقك البض والنهدين والنحر فلسطين انت ياوطني وسميح القاسم قال ايضا متغزلا بفلسطين بقوله وطني ليس حقيبة وانا لست مسافر انني العاشق والارض الحبيبة اما ناجي العلي فقد كان يحفر بريشته جسور الامل من خلال المقاتل الثائر المتمثل بالشخوص المتنوعة التي يبدع بها فنا ورمزا ومعنى ومن هنا كانت لوحاته تربك العدو الاسرائيلي وتقلق الحاكمين العرب،

عشت وعايشت الثورة الفلسطينية وكنت احد كتاب مجلة الهدف الفلسطينية وتعرفت على قادة الثورة وتعاملت معهم ومن خلال كتاباتي في مجلة الهدف حيث كنت محرر بالشؤن السياسية والايدلوجية فنشأت لي علاقة مع غسان كنفاني رئيس تحريرها والمخرج السينمائي والكاتب المبدع العراقي قاسم حول الذي كان يشرف ويكتب في صفحاتها الادبية والفنية بتميز سياسي مناصر لكفاح الشعب الفلسطيني التحرري. ولكل العرب وكذلك لنضال الشعوب المناهضة للاستعمار والاستبداد من سكان المعمورة لايمانه وايضا هي رسالة المجلة من ان جبهة التحرر الوطني العالمية هدفها واحد ولها عدو واحد هو التحالف الصهيوني الاميريالي وكانت الى جانبه الكاتبة والاعلامية نازك الاعرجي.

..ومن خلال تواجدي بالمجلة علمت ان غسان كنفاني وقاسم حول، قررا ان ينتجا فيلما عن ناجي العلي.. فيلم ذي صيغة ملحمية تحاكي موضوعات لوحات ناجي العلي.. الكاريكاتورية التي صارت مثار إعجاب الشعب الفلسطيني، بل والعربي.. على ان يكتب النص غسان كنفاني ويكتب سيناريو الفلم ويخرجه قاسم حول ، فحمل قاسم حول ملخص الفكرة ومخطط تفاصيل الفيلم وذهب إلى مكتب ناجي العلي في غرفة صغيرة مقابل مجلة الهدف تقع في شارع كورنيش المزرعة في بيروت وعند سماعه الفكرة فرح، واندهش ناجي العلي سيما وان قاسم حول خبره بان لوحاته الثابتة سوف يصار إلى تحريكها..!!

لم تمر على قرار التفكير بانتاج الفلم والذي كان في بدايات شهر حزيران عام 1972 سوى بضعة أسابيع حتى اصيبت الثورة بمصاب جلل باستشهاد غسان كنفاني! ورسم يومها ناجي العلي لوحة استشهاد غسان كنفاني حفرت في ذاكرة الشعب الفلسطيني مثل انفاق غزة..

إن أنفاق غزة الآن دوخت النظام الفاشي الذي يحكم الكنيست الإسرائيلي لفاعلية تلك الأنفاق في رفع قدرات وتكتيكات المقاتل الفلسطيني وأنا اتصورها وقد حفرت بإبداع ريشة ناجي العلي.. ولهذا السبب استهدف ناجي العلي مثلما استهدف غسان كنفاني فاستشهد وليس ثمة من يرسم لوحة استشهاده، وظلت الجريمة شبه غامضة لكنها ليست بعيدة عن الموساد الذي عمد على خلط الأوراق باغتياله..ولكن لايمكن ان يخفى الامر على اي مراقب سياسي متابع لعمليات الموساد الاجرامية ضد العلماء والفنانين والكتاب والصحفين العرب

ان لوحات ناجي العلي تاريخ إنساني عالمي عربي وفلسطيني امتزج بالروح وانداف بالتراث والأغنية والموسيقى وكل قصائد الشعراء من ابناء الجليل توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش والمقدسي إبراهيم طوقان ومعول الغزاوي الذي حفر الأنفاق وأبدع في رسمها حفرا بصبر من العمل الشاق لآلاف الساعات من اجل ان يؤمن للمقاتل طريق النصر من ابطال القسام وسرايا القدس ..يذكرنا ناجي العلي بكلمات شعر الشعراء ومشاهد فيلم عائد الى حيفا لقاسم حول وفيلم ناجي العلي لعاطف الطيب ومعارض الأزياء الفلسطينية .. كلها تتجمع في لوحات ناجي العلي. وهي كانت اللبنات التي عبدت الطريق لثورة طوفان الاقصى، لأن العمل الوطني حلقات في سلسلة واحدة تكمل بعضها بعضا من أجل الوصول للهدف، وكما أن معظم النار من مستصغر الشرر.

لم يكن ناجي العلي بلوحاته المدهشة ابداعا قد مثل الفلسطيني الذي لا يمل وهو يتطلع إلى الأفق نحو فلسطين الوطن المغتصب، فقد كانت كل لوحة من اللوحات التي رسمها ناجي العلي تشده إلى بيت لحم والى الطيرة والى النقب والى غزة الأمس وغزة اليوم الجريحة الدامية الصامدة.

إن كل لوحة من لوحات ناجي العلي اليومية هي دراسة لكل حدث يومي عن الوطن الفلسطيني الذي اغتصبه الإسرائيليون ذالك الوطن الجريح والدامي التي سقت دماء شهداءه بساتين الزيتون خلال 75 عاما من سنوات مقاومة الاحتلال الصهيوني.. وطن لم تخمد جذوته في عيون الشيوخ والجدات وصناديقهن التي تضم الكثير من مفردات الحياة عن الوطن السليب ومنها مفاتيح الأبواب ودمى الأطفال والأمهات الفلسطينيات يرددن “يمه مويل الهوا يمه مويليه.. ضرب الخناجر ولا شمت العدا فيا”.

علي العبادي.. محامي وقيادي سابق في حركة القوميين العرب

أقرأ أيضا