هل يكون العهد الجديد عهد الثقافة والمثقفين؟

يبدو لي أن هناك مؤشرات يمكن القياس عليها تتعلق بمستقبل الحركة الثقافية في العراق وامكانية زيادة زخمها لكي تدفع بالمثقف وتجعله يقود حركة التغيير بعد حالة الجمود التي امتدت طوال سنوات الحصار في تسعينيات القرن الماضي حتى السنوات الاخيرة من هذا القرن، التي أضرت بكل شرائح المجتمع العراقي وبضمنهم المثقف. أحد هذه المؤشرات اصبح للثقافة وزير مثقف مطلع على تاريخ وثقافات شعوب الحضارات القديمة التي نشأت وازدهرت في منطقة وادي الرافدين، غاص هناك في اعماق التاريخ كباحث ومتخصص في الانثروبولوجيا (علم الانسان) وكتب حول طبيعة حياة الانسان القديم ومراحل تطوره وجوانب من حياته الاجتماعية في تلك المنطقة وترجم نصوصا كثيرة من الشعر السومري التي صورت جوانب من حياة الانسان في عصر السلالات الاولى. هذا بالاضافة الى اطلاعه على ثقافة الغرب بشكل واسع من خلال دراسته العليا في الولايات المتحدة وعمله في بريطانيا وعلاقاته بأهم وابرز المثقفين والباحثين في مجال الانثروبولوجيا  في العالم مثل مكوايركبسون واليزابث ستون وجون رسل وغيرهم، اضافة لترؤسه اتحاد ادباء ذي قار واطلاعه على الحياة والنشاطات الثقافية على مستوى المحافظة وعلى مستوى العراق. والمؤشر الاخر في اعلى هرم السلطة هناك الرئيس ورئيس الوزراء الذين ينظر اليهم على انهم نموذج للسياسي المثقف.

إذن يمكن  لوزارة الثقافة الان أن تأخذ زمام المبادرة لتقود الركب نحو التغيير الفعلي لحركة المجتمع واعادتها الى مسارها الطبيعي من خلال نشر الوعي الثقافي عبر قنواتها المختلفة. جبال المشاكل التي جثمت على صدر المواطن واثقلت كاهله جعلته يفقد توازنه، وبالتالي ادت الى اضمحلال القيم التي تشكل اساس منظومة الاخلاق التي تضبط ايقاع وحركة المجتمع. لن يحصل التغيير مالم يتم التركيز على اصلاح الانسان الذي يعتبر العنصر الاهم في عملية التغيير. الانسان الذي تعرض الى ضغوطات هائلة وعملية تجهيل وتهميش مستمرة جعلت منه انسانا واهنا لا يقوى على مواجهة الافكار الهدامة التي تهدف الى شل حركته وابعاده عن دائرة الفكر وحركة التطور، بل سيطرت عليه واصبح اسيرا لها حيث بدأ يجترها اجترارا بشكل لم نعهده من قبل.

دول كثيرة مرت بمراحل كتلك التي يمر بها العراق اليوم لكنها لم تستكن أو تبقى على حال، بل طورت نفسها حيث حرقت مراحل كثيرة لتصل الى ما وصلت اليه من رقي وتقدم، وكان للمثقف دوركبير في هذه النهضة. ومن هذه الدول  الولايات المتحدة التي مرت بفترة من 1900 الى 1915 قاد فيها المثقف حركة التغيير وقد اطلق عليها “العصرالتقدمي”. والتقدميون هم طبقة من المثقفين ارادوا ان يمارسوا دورهم في المساعدة على حل الكثير من المشاكل التي تعاني منها الامة، ومنها تردي حالة السكن و ظروف العمل في المصانع وغياب القوانين التي تنظم نوعية الدواء والغذاء الذي يستهلكه المواطن.

ان الامر الذي جعل التقدميين يختلفون عن غيرهم من باقي حركات الاصلاح هو تفاؤلهم واقتناعهم بما يقومون به وكانوا متيقنين ان االشعب الامريكي بدوره سيساهم في حل ومعالجة المشاكل اذا ما تعرف عليها. ومن هنا فقد قام الكتاب بالبحث عن المشاكل التي يروم التقدميون معالجتها مثل امتهان الاطفال وتشغيلهم في المصانع، والممارسات التجارية غير النزيهة، والتمييز العنصري. هؤلاء الكتاب كانوا اول مراسلين استقصائيين حيث قاموا بالتحري ونشر المعلومات التي تتعلق بالمشاكل المختلفة في الكتب ومقالات المجلات السائدة انذاك. وقد اطلق عليهم الرئيس الامريكي السابق تيودور روزفلت مفردة Muckrakers والتي تعني كشف الاشياء السيئة واطلاع الناس عليها.

أوبتون سنكلير كان احد هؤلاء الكتاب المشهورين الذي كتب رواية “اJungle” والذي وصف فيها  ظروف العمل الفظيعة في مصانع تعليب اللحوم في شيكاغو. وقد استند في ذلك على عملية بحث استغرقت سبعة اسابيع قضاها متنقلا بين المعامل. كتب حول كيفية ذبح الخنازير والابقار وتنظيفها وتعليب لحومها. وصف ظروف العمل غير الصحية والقذرة التي كان العمال يعانون منها كل يوم. هذه الرواية كشفت نوعية الاطعمة المعلبة التي يتناولها الشعب الامريكي دون ان يعلم الامر الذي اصاب الناس بالصدمة وثار غضبهم. فمثلا من اجل توفير الاموال تقوم مصانع التعليب بذبح الخيول بدل الابقار وتعليبها وبيعها على انها لحوم بقر والناس لا يعرفون انهم ياكلون لحم الخيول او يقومون بخلط الامعاء وشحوم الخنازير واعضاء اخرى من الابقار وتقطيعها وتعبأتها وبيعها.

عندما قرا الرئيس روزفلت الرواية شعر بالصدمة نتيجة مما ذكر فيها من وقائع وعلى اثر ذلك طلب من الكونغرس تشريع قانون الادوية والاطعمة النقية لعام 1906 وينص هذا القانون على ان جميع الادوية والاطعمة يجب ان تطبق عليها معايير الجودة التي تضعها الحكومة. سنكلير اثبت ان الروائي يمكن ان يغير القانون وقد عمل  اخرون على شاكلته على تغيير اشياء اخرى. خلال العصر التقدمي قامت الكثير من المدن بتشريع القوانين لتحسين الظروف الصحية والسكن للمواطنين. واعتبرت الولايات ان عمل الاطفال في المصانع عملا غير قانوني وهنا يكون المثقف قد مارس دوره في احداث التغيير من اجل مصلحة الامة. نتمنى ان يكون العهد الجديد عهدا يلعب فيه المثقف دورا مهما في حركة التغيير نحو غد مشرق. هذا الامر لن يتحقق مالم يبدأ التغيير من داخل وزارة الثقافة من خلال وضع الخطط الستراتيجية ورفدها بعناصر جديدة ممن تتمتع بعقليات متفتحة ورؤى واضحة، وقناعات راسخة بالتغيير ، وقدرة على اسقاط الحواجز البيوقراطية لمد قنوات الاتصال مع المثقف اينما كان للتعرف على المشاكل التي يواجها ومحاولة مساعدته للتغلب عليها والاستماع اليه من اجل اشراكه في قيادة عملية التغيير، وبخلاف ذلك ستكون هذه المرحلة امتدادا لغيرها من المراحل السابقة التي اتسمت بالخواء والجمود وهذا ما لا نرجوه.

عبدالجبار جعفر متخصص بالعلاقات الستراتيجية، وناشط ثقافي – رئيس منظمة اصوات من اجل العراق

www.voicesforiraq.org

أقرأ أيضا