الاعلام بين التضليل وكشف الحقيقة

 

 

في الولايات المتحدة والدول المتقدمة الاخرى عندما تشم وسائل الاعلام رائحة فساد او حالة تثير الريبة والشك لدى مراسيليها، مثل محاولة اخفاء حقيقة في مؤسسة كبرى أو جهاز من اجهزة الدولة، عن الرأي العام، تقوم بدفع محرريها، او مراسيلها المختصين بالجانب الاستقصائي الى التحري وكتابة التقارير اليومية لكي تطلع عليها الجمهور، ومن جهة اخرى تقوم بالاتصال بمصادرها الموثوقة للتاكد من صحة المعلومات.

 

وتستمر عملية التحري والتقصي لحين التوصل الى خيط يؤدي الى دليل يثبت وقوع حالة الفساد او اي مخالفة تتعارض مع اللوائح والقوانين المعمول بها ويحاسب عليها القانون. وهناك امثلة وشواهد كثيرة من الفضائح التي كشفها او ساعد في كشفها الاعلام، منها فضيحة علاقة الرئيس كلنتون بمتدربة البيت الابيض مونيكا لوينسكي التي اوشكت على الاطاحة برئيس يعتبره الامريكيون من افضل رؤساء امريكا في العصر الحديث، وفضيحة ايران – كونترا والتي يعتبرها الباحثون نقطة سوداء في سجل الرئيس ريغان، ووترغيت (فضيحة التنصت على مقر الحزب الديمقراطي في فندق ووترغيت) التي اطاحت بالرئيس الاسبق نيكسون، وحاكم ولاية الينوي رود بلاكوفيج الذي وُجِهت له عدة تُهم منها محاولة الابتزاز للحصول على الرشى والتحايل وقد حُكِمَ عليه بالسجن 14 عاما. واخرهم مايك فلن مستشار الامن القومي للرئيس ترامب، الذي كانت لديه اتصالات مع الحكومة الروسية اثناء الحملة الانتخابية للرئيس، حيث لم يكن بعد قد شغل منصب رسمي في الادارة الامريكية الامر الذي لايسمح به القانون اجراء محادثات دبلوماسية مع دولة اخرى لشخص خارج الحكومة.

 

اما رينس بريبس، رئيس هيئة موظفي البيت الابيض فقد تعرض لحملة عنيفة شنتها ضده وسائل الاعلام عندما سُرِب خبر اتصاله بنائب رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي يلتمسه الطعن بالتقارير التي تتحدث عن وجود اتصالات بين مسؤولي الحملة الانتخابية للرئيس ترامب ومسؤولين روس ونُقِلَ طلبه الى جيمس كوني، رئيس المكتب الذي رفض رفضا قاطعا تنفيذ الطلب، واعتبرته وسائل الاعلام محاولة للتاثير على اهم جهاز من مهام عمله محاربة التجسس والارهاب والعمل على منع التدخل الخارجي.

 

وتقوم وسائل الاعلام بممارسة دورها من خلال الضغط والمطالبات المستمرة، والملحة احيانا، بفتح تحقيق في القضية. حيث تقوم باستضافة الخبراء والمحللين الستراتيجيين في نشراتها وبرامجها الاخبارية المنوعة من مختلف الاتجاهات ليقوموا بالتحليل والتعليق واعطاء ارائهم بخصوص القضية التي سلط عليها الضوء. وبعد ايصالها الى المرحلة التي تصبح فيها قضية رأي عام يبدأ دور اعضاء الكونغرس بالضغط على المسؤول الذي تحوم حوله الشبهات لتقديم استقاله ثم يفتح تحقيق رسمي عاجل . من هنا نلاحظ ان هناك تناغما او لنقل اتفاق غير مباشر بين السلطة الرابعة (الاعلام) والسلطة التشريعية.

 

أما وسائل الاعلام العراقية، حالها حال الكثير من وسائل الاعلام العربية، فقد ظلت نمطية تعتمد نقل الاخبار دون ان تولي اهتماما كبيرا للتحليل والتقصي ومتابعة قضايا جوهرية لها تأثير كبير على المجتمع سلبا او ايجابا. ان ايلاء الجانب الاستقصائي اهمية قصوى، يعتبرا امرا مهما بالنسبة لوسائل الاعلام التي يهمها مصلحة البلاد ومن اهدافها كشف الفساد المستشري من اجل الاطاحة بالمتورطين الذين تسببوا بسرقة مليارات الدولارات بالاضافة الى الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي حلت بالبلد. ومن اجل تنفيذ مهمة التحري اوالتقصي بشكل فعال وناجح ينبغي تأهيل عدد من المراسلين عن طريق اشراكهم في دورات خاصة او التعاقد مع محقيقين سابقين يتم اشراكهم بدورات لتأهيلهم اعلاميا من اجل العمل على كشف حالات الفساد امام الشعب وممثليه في البرلمان. اما ان تركز وسائل الاعلام على استضافة هذا المسؤول او ذاك او هذا السياسي او ذاك او التطرق الى حالة فساد في هذه الوزارة او تلك دون ذكر اسم الفاعل او الجهة المتورطة – وهذا سلوك تتصف به معظم وسائل الاعلام العراقية – ارى انه ليس اكثر من بضاعة الغاية منها الاثارة وشد الجمهور وهذا يأتي على حساب قضايا جوهرية ينبغي التركيز عليها وعدم اهمالها كالامراض التي يعاني منها المجتمع مثل تفشي الامية، وفشل التعليم او مشكلة التلوث التي تعتبرمن اخطر المشاكل التي تواجه البلد، والتي نتج عنها تفشي مرض السرطان الذي يفتك بالاف المواطنين، او حالات الفساد التي تجتاج دوائر الدولة، او استيراد المواد الغذائية الفاسدة و المنتهية الصلاحية، أو تدهور قطاع الصحة، وارتفاع اسعار الدواء او عدم التركيز على الاموال التي اختفت في عهد الحكومات السابقة.

 

في الدول المتقدمة تُعتبر وسائل الاعلام عوامل تثقيف وتنوير، تتصف بالموضوعية في تغطيتها للاحداث فهي تتحرى الحقيقة وتستقصي الاخبار من مصادرها، اينما تكون لان مصداقية وسيلة الاعلام، على سبيل المثال في امريكا، سواء كانت مرئية او مسموعة او مكتوبة لها اهمية قصوى. فاذا كانت تتمتع بسمعة جيدة، ومصداقية واستقلالية في مجال عملها، وفيها محررون اكفاء، معنى ذلك ان لها جمهور وحجم الجمهور تحدده مكانة هذه الوسيلة بين وسائل الاعلام الاخرى وبذلك ستنال ثقة المُعلِنين من الافراد والشركات والتجمعات والمنظمات والمؤسسات على اختلاف انواعها في شتى انحاء البلاد.

 

وهذا يعني أنه سيكون هناك مزيد من الاعلانات التي تحظى بمردود مالي كبير يقدر بملايين الدولارات. ويلعب مسؤولو العلاقات العامة في المؤسسات والشركات الكبرى دورا كبيرا في هذا الجانب اذ يستخدمون الاعلان كاحد وسائل التعريف بالمؤسسة وتسليط الضوء على الخدمات والمنتجات التي تقدمها. واحد الاجراءات التي يقومون بها هو اجراء مسح لمعرفة وسائل الاعلام التي يفضلها جمهور الشركة ويثقون بها وبطبيعة الحال فان الناس يريدون الحقيقة كما هي ويتأثرون عند اكتشافهم زيف المعلومات وبالنتيجة يصدون عن هذه الشركة او تلك والسبب هو مصداقية وسيلة الاعلام.

 

أقرأ أيضا