لماذا سمي جورج واشنطن أبو أميركا؟

 

عندما تدلهم الخطوب ويصبح مصير الامة مهددا، غالبا ما تنتخي الامم بابنائها، اذ ما يلبث ان يبرز ممن يتصف بقوة الشخصية وممن يكون  اكبر من المواقف والازمات التي تواجهه. ويتميز بالشجاعة والبسالة، والاقدام، والايثار والوطنية العالية والوفاء لأمته  ليتصدى للخطر الذي يواجهها حتى يتحقق له النصر ويعبر بها الى شاطئ الامان. وهؤلاء كثيرون، فعندما تنظر الى الامم التي استطاعت ان تحرز تقدما  في كافة مجالات الحياة  لتبني اوطانا تهفو النجوم على  قبابها، ستجد ان وراء هذا المجد قادة عِظاما كان حلم كل واحد منهم ان يبني وطنا امنا يتسع للجميع بدلا من ان يبني له قصرا لا يتسع لاحد سواه. وفي عصرنا الحديث كان جورج واشنطن احد القادة الذي تخلى عن ولائه للمستعمر الذي كان يحمل هويته وليترك كل شيء، املاكه ومصالحه الخاصة وراء ظهره وليذهب للدفاع عن حرية ومصلحة شعبه ضد المستعمر البريطاني.

 

لم يكن جورج واشنطن امريكيا بالولادة، بل كان انكليزيا ولد في فرجينيا عام 1732 عندما كانت مستعمرة بريطانية من بين 13 مستعمرة خاضعة للتاج البريطاني. ينتمي والده الى طبقة المزارعين الاغنياء في فرجنيا، حيث غالبا ماعاش حياته كسيد انكليزي يرتدي الملابس الانكليزية ويمتطي الجياد الانكليزية وكل مقتنياته البيتية الثمينة كانت انكليزية. ارسل اولاده الكبار الى مدارس انكلترا ليتربوا ويتعلموا  اسلوب حياة الاعيان الانكليز باستثناء جورج الذي ارسله الى المدرسة القريبة من مزرعته ليتعلم القراءة والكتابة والرياضيات.

 

وعندما كان عمره 21 عاما انتدبه حاكم ولاية فرجينا لحمل رسالة الى الفرنسيين يطالبهم فيها مغادرة المنطقة، بعدما علم بتحركهم من كندا واندفاعهم نحو الجنوب، وقيامهم ببناء القلاع والحصون الى الجنوب من بحيرة أريك. وفي طريق عودته الى فرجينيا بعد تسليم الرسالة، واجهته مصاعب واخطار كبيرة كادت تودي بحياته.وقد كانت بمثابة اختبارا لقوة تحمله وارادته الصلبة. فقد قطع المسافات الطويلة في البراري والغابات التي يغطيها الثلج في فصل الشتاء، وعندما كان يجدف بطوافته في نهر اليغيني سقط في النهر والدليل الذي كان يرافقه في رحلته.

 

وبعد ان نجى من الغرق قضى  ليلة في احد الجزر بدون مأوى  حيث كانت درجة الحرارة منخفظة الى حد الانجماد. اصيب الدليل الذي كان يرافقه بلسعة البرد – حالة تنجم عن تلف في انسجة الجسم نتيجة البرد الشديد. قدر المؤرخون طول المسافة  التي قطعها جورج واشنطن في رحلته بـ 1450 كيلومترا. ثم  قاتل بعدها مع القائد البريطاني ادورد برادوك الذي ارسله ملك انكلترا لاخراج الفرنسيين من ريف اوهايو الذي كانوا يسيطرون عليه. بعدها عُين قائدا للقوة العسكرية التابعة لفرجينيا تقديرا لشجاعته. كانت مهمة القوة حماية حدود فرجينيا التي كانت تبلغ 350 ميلا. في عام 1780 بعد ان استعاد البريطانيون مناطق اوهايو من الفرنسيين واستتب الامن في فرجينيا استقال جورج واشنطن من الخدمة العسكرية وعاد الى مزرعته في مونت برنون ليعمل بها ويوسعها، حيث بلغت مساحتها 8000 فدان.

 

في حزيران عام 1775 أُنتُدِب جورج واشنطن لقيادة الجيش من اجل محاربة  البريطانيين المستعمرين للبلاد.وقد كان شرطه  الوحيد من اجل قبول  المهمة هو ان لا يتقاضى راتبا مقابل  خدمته العسكرية التي  اجبرته على الابتعاد عن عائلته،وعمله في مزرعته الكبيرة التي كانت تدر عليه اموالا طائلة مدة 8 سنوات مفضلا فيها مصلحة الشعب والوطن على  مصلحته الخاصة. وعلى الرغم من افتقاره للخبرة الكافية  في ادارة تشكيلات كبيرة والمناورة بها، او كيفية الحفاط على خطوط الامدادات للالاف من الرجال في الميدان، الا انه استطاع باصراره وعزيمته العالية ان يتعلم كيفية قيادة هذا الجيش الذي عانى من الاندحار وحالات الانكسار والفشل. ان الشجاعة وقوة الارادة التي كان يتمتع بها جورج واشنطن مكنته من ان يجعل من وحدة القضية الامريكية هي الهدف الذي ينبغي العمل من اجله لتلافي التفكك التام، بعد ذلك عرف كيف ان ينتصر في صراع ثوري غير مسبوق ضد الاحتلال البريطاني.

 

استخدم فيه اسلوب المناورة والمراوغة بدلا من المواجهة المباشرة مع الجيش البريطاني الذي كان يفوق  الجيش الذي يقوده واشنطن بالتجهيزات والعدة والعدد. كل ذلك من اجل المحافظة على  سلامة جنوده وحشد الدعم الشعبي لهم. وقد استخدم هذا الاسلوب القادة الثوريون في مختلف بلدان العالم في الـ 200 سنة الاخيرة. في كانون الثاني من عام 1783 بعد ان حقق الانتصارعلى الجيش البريطاني، استقال من قيادة الجيش ليعود الى بيته ومزرعته في فرجينيا، عازما بعدم العودة الى الحياة العامة والبقاء في مزرعته، الا انه بقي يراقب الاوضاع عن بعد. وكانت حالة التدهور والتفكك والضعف في، المجال المالي، والدبلوماسي، والعسكري الذي كانت تعاني منه الولايات جعلته يعتقد بان الاصلاح بات ضروريا، ولابد من اتخاذ موقف، وفي عام 1785 ترك بيته وتوجه الى ولاية فيلادليفيا ليتم اختياره بالاجماع رئيسا للمؤتمر الذي أُعِد فيه الدستور، وبعد عدة شهور استطاع بحنكته السياسية ان يتغلب على المصاعب التي واجهته. وما ان تم التصديق على الدستور قرر مرة اخرى العودة الى حياته الخاصة لكن موعد حلول اول انتخابات رئاسية قد حال دون ذلك، حيث تم انتخابه اول رئيس للولايات المتحدة الامريكية، وقد كان الرئيس الامريكي الوحيد في تاريخ امريكا الذي نال الاغلبية المطلقة لاصوات الشعب.

 

حكم الولايات المتحدة لفترتين رئاسيتين ورفضح ان يرشح نفسه لفترة  ثالثة رغم كونه القائد الذي تحقق على  يده الاستقلال. فقد قاد جيش الاتحاد لمحاربة البريطانيين الذين ظلوا يطاردونه مدة ثماني  سنوات، حيث جاب البراري والغابات من شمال امريكا حتى جنوبها مستخدما  في حربه معهم اسلوب الكر والفر لانهم كانوا يتفوقون عليه بالعدة والعدد. في مرات عديدة وفي ايام الشتاء القارص كادوا ان يتمكنوا منه بعد ان قتلوا عددا كبيرأ من جنوده لكنه افلت من قبضتهم حتى تمكن في اخر المطاف من اعادة تأهيل جيشه وجرهم الى منطقة القتل في قيلادليفيا ليتمكن منهم ويعلنوا استلامهم له.

 

لم يطالب جورج واشنطن حقوقا وامتيازات مقابل خدمته الجهادية كما  طالب بها اليوم سياسيو العراق الذين قضوا خدمتهم الجهادية في دول الجوار ودول اوربا. في خطاب الافتتاح للفترة الرئاسية الاولى، اعترف جورج واشنطن بعدم ممارسته واجبات الادارة المدنية الا انه بمرور الزمن اثبت كفائة وحنكة في مهام ادارته كرئيس. فقد ادار الحكومة باسلوب يتصف بالعدل والنزاهة ليثبت للامريكيين ان الرئيس يمكن ان يمارس سلطات تنفيذية واسعة بعيدا عن الفساد. طبق القانون بصرامة وقد كتب عنه توماس جيفرسون: كان جورج واشنطن عادلا قلما تجد له نظيرأ في عهده. لم ينحاز في قراراته بدافع المصلحة الشخصية، او القرابة او الصداقة او بدافع الكره. وهو اول من وضع معايير النزاهة  الرئاسية. وقد سُمي ابو البلاد لانه وحد الشعب الذي كان يعاني من الخلافات السائدة انذاك. ومن هنا ندرك ان القادة العظام هم من يؤسس للقيم والمبادئ التي  يسير علىيها المجتمع ليكونوا مثالا يحتذى. اما القادة الفاسدون فيكونوا  وبالا على شعوبهم واوطانهم وما يجري في العراق خير مثال على ذلك.

 

أقرأ أيضا