تأملات في القيم الديمقراطية الأمريكية

فعلَ الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة مالم تفعله الحرب العراقية الإيرانية. وليس المقصود هنا الركون إلى مفاضلة أيهما أكثر ضرراً، فالخسارات واحدة وإن تغيّرت أشكالها التعبيرية. لكنّ الحصار الاقتصادي هو الحلقة الأخرى من السلسلة الطويلة لتدمير العراق.

 

لم تستطع الحرب إضعاف الشعب العراقي وزحزحة قيمه الوطنية، ذلك أن المجرى العام لسياق الأحداث كان يتحرك ضمن وتيرة عالية جداً وحماسة قومية منقطعة النظير، كون الحرب اتخذت طابعاً حماسياً وشكلاً أيدلوجيا عنوانه الأبرز هو الصراع العربي الفارسي.

 

فبالتالي لم يكن الشعب العراقي مشغولاً بحاجاته اليومية ومتطلبات الحياة الضرورية، بل كانت سبل العيش متوفرة بشكل عام، من خلال الدعم العالمي والعربي لنظام البعث. أمّا الحصار فقد اتخذ طابعا تأديبياً وشرساً ؛ فأصدقاء الأمس تحولوا إلى وحوش كاسرة وتحول نظامهم الصديق إلى عدوٍ شرس بين ليلة وضحاها، ودول الخليج الداعمة لصديقها الحميم انقلبت عليه، وتحول هذا الصديق بالنسبة للولايات المتحدة إلى عدو للإنسانية.

 

لا يهم إذن الثمن الذي سوف يدفعه الشعب العراقي حتى لو كان عدد الضحايا نصف مليون طفل مادام الثمن يستوجب ذلك حسب تعبير وزيرة الخارجية آنذاك مادلين أولبرايت.

 

فمادام هذا الصديق (صدام) انطلت عليه اللعبة وصدق نفسه لدرجة الثقة الزائدة بالذات ينبغي إرجاع العراق إلى عصر ماقبل الصناعة بحسب تعبير وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكرا ولا تصح كلمة حصار إلا إذا أكل العراق – أسوة بالشعب الكوبي – ورق الأشجار لكي تشعر الغريزة الأمريكية بالرضا والطمأنينة. بهذه الطريقة يمكن لعرابي البيت الأبيض أن يرقدوا بسلام مادامت الحلقة الأولى من سلسلة التدمير تمت وبنجاح : أطول حرب في العالم دامت ثمان سنوات كلّفت العراق مبالغ طائلة استزفت ميزانيته الاقتصادية، وإحداث قطيعة بين النظام الإيراني والسوري لضمان قطيعة أيدلوجية ممكن أن تحدث انقلاباً ثورياً في المنطقة.

 

لكن العطش الأمريكي لتدمير الذات لايمكنه أن يشبع، فقد ترك صديقه البعثيّ في أجمل لحظات تاريخه، لقد خرج منتصراً على عدو أمريكا والعرب ونجح صدام في لجم الثورة الخمينية في عقر دارها، لكنه أفرز جيشاً محترفاً ويتمتع بقطعات عسكرية فعّالة.

 

لذا لايمكن إطالة أمد النشوة البعثية لهذا النصر، واعتبار الجيش العراقي كقوة عكسرية ضاربة في المنطقة، كونه سيُحدِثُ جرحاً نرجسياً عميقاً لسادة البيت الأبيض، أضف إلى ذلك إن تاريخ صلاحية صديقهم الحميم شارف على الانتهاء.

 

صحيح أنهم دللوه كثيراً حتى أنهم – والحق يقال – لم يقفوا ضده حينما أباد قرية حلبجة بالسلاح الكيميائي، وإكراماً لعينيه لم يتحرك الإعلام العالمي ولا العربي لهذه الكارثة الإنسانية.

 

فالقادم أكثر أهمية بكثير، وهو تركيع الشعب العراقي بأكمله وتدمير قيمه الأخلاقية والوطنية،ووضعه في خانة النسيان، لابد أن يعاقب الشعب العراقي ويتم التنكيل به، فالشعوب المتمردة لا تجعل الأمريكان ينامون بسلام على فراشهم الوثير.

 

لقد فعل الحصار الاقتصادي مالم تفعله أي سياسة منحطة من قبل وقذفت بالعراق إلى مارواء التاريخ، وأطاح الأمريكان بذاكرة ومخيال شعب تمتد حضارته إلى سبعة ألاف عام بحجة معاقبة النظام. تَمّتْ الحلقة الثانية بنجاح ساحق، قصف جوي مركز ليطيح بأهم المواقع الإستراتيجية، فلا يوجد الآن سوى شعب يحتضر من المرضى والفقراء والمعدمين.

 

لكن معالم البنية التحتية لازالت شاخصة، فلابد من تسوية الأمر على الطريقة الديمقراطية للعم سام: لقد اكتشف الأمريكان أن صدام حسين خطراً على القيم الإنسانية والديمقراطية، ولازالت بحوزته أسلحة دمار شامل، فلابد من اجتياح العراق بعد أن أسقطوه بالضربة القاضية.

 

وبهذه الطريقة استراح الضمير الأمريكي المتخم بالقيم الديمقراطية : حرب السنوات الثمان، حرب الخليج، حصار اقتصادي، اجتياح عسكري أحرق الأخضر واليابس، حكومة لصوص محترفين، أدخلت العراق في دوامة وكابوس مرعب. إنه ثمن الديمقراطية الباهظ ـ لكن ويا للحسرة، لقد بددت وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس كل هذه الأوهام، وأعلنت قبل أيام، إنهم لم يدخلوا العراق لنشر الديمقراطية، وإنما لإسقاط صدام.

أقرأ أيضا