الميزان في سعر الدينار

تتفاعل اجراءات الحكومة العراقية بتخفيض سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي داخل الأوساط العراقية المختلفة بسبب تخوفها من تداعيات سلبية على المستوى المعاشي للمواطن العراقي.

وكانت الحكومة العراقية قد اتخذت قرارا بتخفيض قيمة سعر الصرف للدينار العراقي بأكثر من 22% بالنسبة الى الدولار الأمريكي والذي يعني تخفيض القيمة الحقيقية لرواتب موظفي الدولة وتخفيض قيمة مدخرات المواطنين بالعملة المحلية ايضا، فضلا عن تداعيات زيادة التضخم وارتفاع اسعار السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية والذي يشكل عبئا اضافيا على المواطن العراقي لاسيما الشرائح الفقيرة الواسعة الانتشار.

وكانت اسواق العملات الاجنبية في العراق قد شهدت اضطرابا كبيرا وصعودا مفاجئا في اسعار الدولار في الاسبوع الذي سبق اعلان الحكومة عن تخفيض قيمة الدينار حيث حاولت الحكومة اولا نفي احتمال خفض قيمة الدينار واكدت على استقرار قيمته عند السعر السابق، لكن تسريب مسودة موازنة عام 2021 والتي كانت مناقشتها تجري داخل مجلس الوزراء قد كشف المستور وفضح تكذيب الحكومة واكد على ان موازنة عام 2021 تتضمن اقتراحا برفع سقف سعر صرف الدولار الامريكي الى 1450 دينارا عراقيا، الامر الذي اجبر الحكومة على الاعتراف وتأكيد الإشاعات والمعلومات المسربة عن مشروع الموازنة حتى صدر توضيح من البنك المركزي العراقي يؤكد ان سعر صرف الدولار الامريكي سيكون من يوم امس الاحد 20/12/2020 بقيمة 1450 دينارا مما زاد من قلق الناس على مستقبل الاقتصاد العراقي والحالة المعاشية.

مما لاشك فيه فانه لا توجد قيمة ثابتة للعملات الوطنية المحلية والدولية في الاقتصاديات الحرة في العالم وانما تتغير قيمة هذه العملات حسب متغيرات السوق والسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية لكل دولة من الدول وبالشكل الذي يتناسب مع اقتصاديات الدولة وحاجاتها الاقتصادية والمالية الوطنية، ولذلك من الطبيعي جدا ان تتغير قيمة هذه العملات في اليوم والليلة مع ملاحظة ان هذه التغيرات تكون بمعدلات ونسب ضئيلة تقدر بالأعشار وليس بمستوى التغيير الذي شهدته العملة العراقية بمعدل اكثر من 22%.

وقد انبرى كل من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ووزير ماليته علي علاوي بتبرير عملية تخفيض سعر صرف الدينار العراقي ولكن كل على طريقته الخاصة، وفيما حاول السيد الكاظمي ربط تخفيض سعر صرف الدينار مع مكافحة الفساد والاصلاح الاقتصادي فان وزير المالية كان اكثر مصداقية وواقعية ووضوحا وشفافية عندما اكد على ان تخفيض سعر صرف الدينار لغرض تغطية العجز المالي في موازنة 2021 مع اشارته الى ان قيمة الدينار العراقي السابقة لم تكن واقعية ولم تكن تعكس القيمة الحقيقية للدينار العراقي في البنية الاقتصادية للعراق وان الحاجة كانت قائمة لإحداث عملية تغيير سعر صرف الدينار من وقت سابق.

وعلى فرض انه كانت هناك حاجة وضرورة اقتصادية بنيوية لإحداث التغيير في سعر صرف الدينار واحداث نقلة نوعية في طبيعة الاقتصاد العراقي الريعي وتشجيع الانتاج فهل ان عملية التغيير هذه جاءت في الوقت المناسب والطريقة المناسبة وهل ان الاقتصاد العراقي يحتاج الى هذه العملية الجراحية الخطيرة في هذا الوقت؟

يقول المختصون بالاقتصاد ان تشجيع الانتاج المحلي ومعادلة ميزان التبادل التجاري ومعالجة العجز التجاري الخارجي يكون بحاجة الى تعديل سعر صرف العملات الوطنية، لكن هذا ينفع الدول المنتجة والمصدرة مثل الصين التي تحافظ على انخفاض عملتها اليوان مقابل الدولار الامريكي بهدف تشجيع صادراتها الخارجية، وهو اجراء تشكو منه الادارة الامريكية باستمرار وتضغط على الصين لرفع سعر صرف اليوان مقابل الدولار كما نلاحظ ان انخفاض قيمة الدولار الامريكي يشجع حركة الصادرات الامريكية ويخفض من عجز التبادل التجاري الامريكي مع كل من الصين وأوربا، لكن هذا يحدث مع الصين ومع امريكا وغيرها من الدول الصناعية المصدرة وليس مع العراق الدولة الريعية غير المصدرة، اذ ان رفع سعر صرف الدولار لن يأتي بعائدات مالية من الخارج لأنه لا توجد صادرات باستثناء النفط وهذا يعني ان العراق ولغرض تشجيع انتاجه الداخلي وحماية هذا الانتاج كان عليه في هذه المرحلة حماية الانتاج الوطني وتشجيعه بإجراءات حمائية مثل فرض قيود على الاستيراد ومنع استيراد السلع والبضائع والمنتجات الزراعية التي تنافس الانتاج الداخلي هذا من جهة ورفع نسبة ومعدلات الضرائب الكمركية على السلع والبضائع والمنتجات الواردة من جهة اخرى لغرض حماية المنتوجات الداخلية، اما رفع سعر صرف الدولار الامريكي وبهذه الطريقة والعراق يستورد كل احتياجاته من السلع والبضائع من الخارج فان هذا سيؤدي الى رفع معدلات التضخم وارتفاع الاسعار وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين لاسيما للطبقات الفقيرة الكثيرة في الواقع العراقي الاجتماعي، ثم ان تعديل سعر صرف العملة الوطنية ولأي ضرورات وحاجات اقتصادية او مالية او تجارية تكون تدريجية وعلى مراحل ولا تكون بمقدار لا يقل عن 22% دفعة واحدة.

وحتى حاجة الدولة العراقية الاكيدة الى السيولة النقدية لغرض معالجة العجز المالي الكبير في موازنة 2021 فان تخفيض سعر صرف الدينار العراقي قد لا يكون في الظروف الراهنة هو الحل او ليس هو الحل الوحيد على اقل تقدير وانما توجد حلول كثيرة ومتعددة اخرى.

في سماء المنظومة العراقية الاقتصادية والسياسية ثقوب فساد سوداء هائلة قد لا تقل في شفطها لواردات العراق المالية وامواله عن شفط الثقوب السوداء في الكون للنجوم والكواكب، لذلك فمن دون معالجة آفة الفساد ومكافحته فان اي واردات مالية اضافية تأتي من رفع سعر الدولار او حتى من ارتفاع اسعار النفط او زيادة انتاج النفط سوف تشفطها ثقوب الفساد السوداء ، لقد كانت موازنات العراق انفجارية ضخمة بلغت حتى حدود 120 مليار دولار ومن دون عجز مالي فاين ذهب ترليون دولار من هذه الموازنات في السنوات الماضية؟ وعلى هذا فانه لا اصلاح للاقتصاد العراقي من دون مكافحة الفساد واستعادة اموال الناس والدولة المنهوبة وان تكون الشجاعة الحقيقية وارادة التغيير اولا في معركة مكافحة الفساد.

وثانيا ان من يريد معالجة عجز كبير في الموازنة المالية واصلاح اقتصاده الوطني عليه ايضا ان لا ينخرط بالخيارات السهلة في خفض سعر الدينار وانما ان يعمل بالخيارات الصعبة في انتاج ميزانية تقشفية تخفض من الانفاق الحكومي والانفاق غير الضروري بصورة صارمة وقاسية جدا، لا ان تكون موازنة 2021 موازنة غير تقشفية وفيها الكثير من النسب المرتفعة من الانفاق الحكومي غير الضروري، فكيف يريدون خفض العجز المالي وتغطية هذا العجز بموازنة مترهلة وغير تقشفية ونفقات حكومية وغير حكومية كبيرة جدا؟

ثالثا ان على الدولة ان تسيطر على كافة مصادر وارداتها المالية من صادرات نفطية ومشتقات نفطية داخلية ومنافذ حدودية وكمارك ورسوم حكومية مختلفة وكل منفذ من منافذ الواردات المالية هو حق حصري للدولة وللبيت العام.

ان هذه الاجراءات ومصادر المال والثروة هذه تكفي لمعالجة العجز في الموازنة المالية لعام 2021 ولبناء موازنات سليمة وصحيحة لكل الاعوام القادمة ويغني الحكومة عن اللجوء الى تخفيض سعر صرف الدينار  والضغط على المواطن وقوته اليومي وتأجيل تعديل سعر صرف الدينار اذا كانت هناك حاجة وضرورة الى ذلك حتى وقت اخر عندما تتحرك عجلة الاقتصاد الوطني بعض الشيء ويتحسن الانتاج الداخلي ويدخل مرحلة التصدير وليس الانتاج فقط عندها عندما تكون هناك حاجة الى تعديل قيمة العملة الوطنية العراقية وبمستويات طبيعية ومتعارف عليها وضمن القواعد والقوانين التي تحكم اسواق المال والاقتصاد يمكن التعديل والاصلاح في ميزان سعر الدينار من دون الحاجة الى جراحات مؤلمة وشجاعات على قوت الفقراء الضعفاء من دون الاغنياء الاقوياء.

أقرأ أيضا