عقولٌ متحرّرة أم وعيٌ مختطف؟

  تشهد مجتمعات المنطقة، اليوم، تصدّعات عميقة في بناها الثقافية، وتشكّلاتها المجتمعية، فضلا عن واقعها…

 

تشهد مجتمعات المنطقة، اليوم، تصدّعات عميقة في بناها الثقافية، وتشكّلاتها المجتمعية، فضلا عن واقعها السياسي الذي بات خاضعاً لاستراتيجيات دولية تخفي أكثر مما تعلن عن خارطة مشاريعها القادمة في هذه المنطقة. في هذه المجتمعات المركّبة بموروثات الماضي، وأطيافه الشبحية، والعاجزة عن التفاعل مع مستجدات الحاضر، ومتغيراته الصادمة، لا يمكن التعويل على قراءة أحادية، تفترض مسبقاً سيناريو محدداً، تُبنى عليه آمالٌ كبرى، وتحليلاتٌ واثقة مما سيكون عليه ترتيب العلاقات بين الدول، وما سيفرزه التصدّع في بنية كل مجتمع على حدة.

 

فهناك أكثر من ستراتيجية واحدة تتعامل بها القوى الخارجية المؤثرة على مسار الأحداث المحلية، حيث أن سياساتها المُعَدّة لهذا الغرض، تعتمد في غالب الأحيان، على المواقف الآنية المفاجئة، والتحرّكات الصادمة للتوقعات التي تبني رؤاها على ظواهر الأشياء، وبعض تفاصيلها المجتزأة. وحيث اللعب اللا أخلاقي صار سِمَةً يتميّز بها عالم السياسة اليوم، فعلينا أن نضع أكثر من سيناريو واحد لقراءة ما بين السطور وما خلفها، برؤى جديدة تتمرّد على السياقات التقليدية والنمطية في التفكير والتحليل.

 

إن ما ترسّب بكثافة في لاوعينا المزدحم بأفكارٍ موروثة وصور تعتّقت كثيراً، وصارت لها ملامحٌ تشبه فتات الحجر، لم يعد نافعاً لواقع تسارع المعلومات وتدفقها اللامحدود، ولا لطبيعة الأحداث الساخنة وصورها المتداخلة على أكثر من مساحة واحدة. إن التعاطي مع وقائع الحياة الجديدة، يحتاج إلى عقول ذكية شابة، تواكب التطورات في عالم الأفكار المتنوّع بين التناظر والاختلاف، وتفكّر بلا نحيب نايات منشدي الأحلام الضائعة، ولا حماسة ورثة الشعارات التي “ما قتلت ذبابة”، بل تركت نفايات الخرافة تتراكم حتى تحوّلت إلى حاضنات لتفقيس بيوض ذباب بشري قاتل: القاعدة وداعش وما بينهما من أيتام القتلة. وظلت تغني لبطولاتٍ لم يبقَ منها سوى الرماد في عيون أحلامنا. ومن هنا تكمن أهمية مراجعة فكر من كان يقف وراء تلك الشعارات، والأشواط التي قطعوها في ميدان الخسارات الذي صار الرهان على خيوله الواهنة يشبه الضحك على العقول، وبات الدوران في محيطه المغلق يُماثل في نتائجه، دورات المتسابقين اللامجدية في فيلم “إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك”. ومع كل هذه الفراغات الكبيرة في حياتنا، هناك من لا يستطيع أن يغادر أوهامه التي تحولّت إلى ينابيع وحيدة للأمل، ومصادر مثلى لتوازن الذات القلقة.

 

لم يعد لمفاهيم ” الثورة “، و”السيادة “، و”الاستقلال” ذات المعاني المحددة في قاموس السياسة القديم، بعد أن عملت العولمة على وضع تفسيرها “السائل” لكل ما كان مؤطراً بحدودٍ عصيّة على الاختراق، وقامت بتفتيت الواقع الذي يعبّر عنه هذا المفهوم أو ذاك، وجعل الكثير من تلك المفاهيم سقوفاً بلا أعمدة: كيف يكون شكّل الثورة في مجتمع منقسم وموّزع بين قبائل ومجموعات مسّلحة تسيطر على الكثير من مفاصل “الدولة”، وعلى جمهور تمّ تغييب وعيه الشعبي الموّحد بثقافة فرعية للطائفة، والمذهب، والحزب، وجعلها متاريس تحميه من كراهية الآخرين التي رسّخوها، ضداً تاريخياً ومجتمعياً، في وعيه المُختطف. وكذا حال السيادة التي تجسّد طبيعة الاستقلال، حيث تداعت جدران أمنها الجغرافي بقوة ثورة المعلومات العابرة للحدود، والتي صار من الصعب السيطرة عليها ، وقد أصبحت من مكوّنات الهواء وفضائه الواسع.

 

لقد ولىّ زمن الأيقونات، والنوم الهانئ على وسائد رموزها المطرّزة بالحروف المقدسّة. وعلينا أن نكتشف سرديةً جديدة، من وقائع تجربتنا الحالية، نُعيد بها تشكيل خارطة حياتنا.

 

إن العقول الذكية المطلوبة لمواجهة متغيّرات الحاضر ، ومفاجآت المستقبل، هي المُنتَج الذي سيكون مؤثراً خارج الوصايا التي شاخت في قوقعة الزمن المغلقة على نفسها، والقوة الفاعلة في ترتيب مسار الأحداث، وصورها المتنوّعة، التي صارت تتنقّل بخفّة الهواء في المكان، وبسرعة البرق في الزمان. وهي من عليها أن تضع برامج جديدة للتفكير، وأساليب مبتكرة للعمل، وأن تبدأ بتنظيف العقول المضللة من تلك النفايات السامة، وجعل حركتها حرّة على مساحات مفتوحة لكل البشر، وخالية من الحاضنات التي ترسم حدود الدم بينهم.

 

ويبقى السؤال الأهم: هل توجد، الآن، مثل هذه العقول في مجتمعاتنا التي لازالت تتغذى على الأوهام، والجهل، وانتظار ما يأتي على أبسطة الكسل، والدعاء بمعجزة خارقة  تغيّر واقع الحال الذي يطاق؟ وهل سيتوقف المُضَللون بعدالة المسّتبد، ونسبتهم لا زالت عالية، من الركض المحموم وراء أيّ رمزٍ للقوة “المخلّصة” لهم من دوامات حياتهم المتعاقبة، حتى وإن كانت لمعتوهين يقودون هذه المجتمعات إلى مشارف الجنون؟ وهل هناك، في المدى المنظور، مستجدات مختلفة يخلقها حراكٌ مجتمعي جديد، تسنده قاعدة اجتماعية وثقافية “مدنية”، تُنتج عقولاً حرّة، تحرّك الصراعات باتجاهات أخرى غير ما هي عليه الآن في خوانقها الطائفية، والحزبية، والقومية الشوفينية، المُسَيطر على تغذيتها، وتشجيعها، والترويج لها، من قبل مافيات السياسة والمال  التابعة لقوى إقليمية ودولية، والتي لها دورٌ واضح في تصنيع حاضنات ذبابنا البشري القاتل، ومن كل الأنواع؟

 

إن استمرار ما تعيشه مجتمعات المنطقة من اختّلالات كبيرة في مجالات الحياة المختلفة، يتطلّب الحذر من الأجوبة الجاهزة، والابتعاد من الأحكام المبنيّة على تصورات مسبّقة، ومن معايير تثبّت عدسة واحدة لرؤية ما يحدث الآن، وما سيحدث في الأيام المقبلة. وأن لا نبحث في عدّة الصناديق الحديدية الصدئة، عن أدواتٍ تعيننا على مواجهة أخطار الحاضر ذات الأشكال المتعددة، والمصادر المتنافرة.

 

إن ما يُطرح من أسئلة، مهما كانت صادمة لقناعاتنا، سيكون مدخلاً حراً، لا يحرسه خفراء تلك القناعات ولا أشباح الأيقونات، لتنشيط العقول، وتحديث طرائق التفكير، للكشف عن أجوبةٍ غير مقيّدة بالمواعظ، والإملاءات الفوقية. ومثل هذه الأجوبة لا يمكن تحديد مساحة فعلها، شرطاً يُرضي الأمنيات الشخصية، بأعمارنا، بل بزمنٍ قد لا نكون فيه ،ولكنه الحصّة التاريخية المستحقة لمن يأتي بعدنا.

 

إقرأ أيضا