الاهوار في رواية “وليمة لاعشاب البحر”

  نادرة جدا تلك الروايات غير العراقية التي التصقت بموضوع الاهوار، ومن بين تلك النوادر…

 

نادرة جدا تلك الروايات غير العراقية التي التصقت بموضوع الاهوار، ومن بين تلك النوادر رواية “وليمة لاعشاب البحر” او نشيد الموت، كما سمّاها مؤلفها الروائي السوري حيدر حيدر، الذي اطلع بشكل كافي على تجربة العمل الشيوعي المسلح في الاهوار من لسان اهل مكة، فكان ذلك دافعا قويا له كي يكتب عن تلك التجربة المثيرة ويقارنها كثيرا بالتجربة الجزائرية من خلال الظروف المعقدة التي احاطت بالتجربتين، المقارنة تأتّت اساسا من خلال بطلي الرواية وهما شيوعيان عراقيان ذهبا للجزائر وعملا في التدريس هناك، احدهما وهو “مهيار الباهلي” كان مشاركا في تجربة النضال المسلح في الاهوار، بعد التطورات السياسية المعقّدة والظروف الصعبة التي مر بها الشيوعيون في العراق بعيد انقلاب 1963، من هنا قرر مهيار برفقة فريق من الشيوعيين تشكيل نواة ثورة شيوعية بقيادة خالد زكي ذلك الذي ترك رخاء العيش في بريطانيا ليقود فريقا مسلحا في الاهوار، هناك حيث العالم الجديد تماما على مجموعة من ابناء المدينة، يتوقف كثيرا حيدر حيدر عند تلك النقطة ويوليها اهمية كبيرة، حيث يتطرق الكاتب بشيء من التفصيل الى طبيعة الحياة في الاهوار، ليبين مدى صعوبة الظروف التي عاشتها تلك المجموعة الغريبة تماما عن بيئة معقدة رغم بساطتها مثل بيئة الاهوار، “هنا وسط هذا العالم الغريب البدائي من الماء والغرين والبردي والبعوض والطيور والاسماك واساطير الطبيعة وانكسار هيبة القانون بين هؤلاء المعدان في هور العوينة والغموكة والحمار ظهرت اول بؤرة ماركسية مقاتلة في النصف الثاني من القرن العشرين. كانت اقاليم الجنوب: البصرة والناصرية وميسان مهد الثورات القديمة وارض التمردات والانتفاضات في عصور الامويين ثم العباسيين ثم الانجليز فالاقطاع فيما بعد”، ويضيف حيدر حيدر ايضا “ومن هذه الاقاليم الشاسعة والخصبة الصارخة بالجوع والاهمال انطلق الخوارج والشيعة ثم الزنج والقرامطة وثورة العشرين”.

وفي مناسبة اخرى يعود الكاتب مستحضرا بإسهاب توصيف حياة اولئك المتمردين الجدد في منطقة غريبة عليهم تماما، “سيمضي مهيار الباهلي مع جماعته.. يقطع مع المقاتلين اغصان البردي ليقيموا فوق المياه الاكواخ العائمة، وليعيشوا حياة يومية جديدة، تبدّأ استيقاضها الساعة السادسة صباحا بفطور الشاي والتمر، تليها فترة التدريب الرياضي تخويضا في اعماق المستنقعات الصقيعية، يبدأ بعدها تكوين أنفاق داخل غابات القصب والبردي الكثيف، كمداخل وممرات حماية وانسحاب عن أنظار العدو، ثم تقطيع القصب وتحزيمه لصناعة أطواق صالحة للإبحار بدلا من الزوارق، ثم تدريبات بالرصاص الحي على ألواح من الزنك او الخشب، تعلّق فوق رؤوس القصب، وفي المساءات، إذ يهبط ليل الاهوار زاحفا كالتماسيح حاملا الرهبة والاصداء الغريبة، ومشاعر العزلة خارج بوابات العالم، كانوا يباشرون حياة بدائية في شي الخبز فوق صاج على شكل قبة رمادية يوقدون تحته قرم القصب التي اقتلعوها بحرابهم خلال النهار. وداخل ذاك الكوخ القصبي العائم فوق الماء، كانت مائدة العشاء تنحصر بالمعلبات والتمر والشاي والخبز المشوي، وما تم صيده من السمك وسرطانات النهر”.

الكاتب بدى وكأنه هضم الظروف الموضوعية التي تحيط بتلك المجموعة المسلحة، وقائدها الميداني خالد زكي الذي اتكأ في تجربته على تجربة مسلحة شيوعية اخرى في الاهوار بطلها امين خيون، فهذا الاخير قاد فريقا شيوعيا مسلحا في الكاظمية من اجل مقاومة انقلاب 1963، وقتل منهم كثيرون على يد الحرس القومي، فالتجأوا الى الاهوار واستمروا في حمل السلاح من هناك، وبعد التطورات السياسية الكبيرة التي حصلت في العراق طيلة حكم عبد السلام عارف وما فعله الحرس القومي بالشيوعيين، راودت بعض اجنحة الحزب الشيوعي فكرة النضال المسلح انطلاقا من الارياف والقرى واعماق الاهوار، تأثرا بتجارب النضال اليساري في امريكا الجنوبية، كانوا يودون تكرار التجربة في العراق. لكنهم اصيبوا بالاحباط بعد تخلي القيادات الشيوعية عنهم، فلم تمدهم بما يكفي من الاسلحة، اضافة لكونهم لا يعرفون المنطقة بشكل جيد، وما يزيد الطين بلة انهم لم يستقروا في مكان واحد كي يتمكنوا من معرفة كيفية التحرك بالاهوار ودهاليزها الغامضة.

ومع اول نشاط مسلح لمجموعة خالد زكي فإنها تمكنت من السيطرة على مخفرين للشرطة والاستحواذ على ما فيهما من سلاح وذخيرة، لكن المجموعة في طريق العودة ظلّت الطريق وبقي افرادها في العراء على ضفاف اهوار الناصرية، وبعد تعرّضهم لسلسلة من الكمائن وخوضهم للمواجهة، انتهى بهم المطاف محاصرين في بيئة مكشوفة.. فكانت نهايتهم الحزينة جدا. ولان الكاتب يتحدث عن وقائع حقيقية حدثت في مساحة زمنية لا تبتعد كثيرا عن الفترة التي كتبت فيها الرواية من هنا فإن سلسلة الاحداث التي تتعلق بتفاصيل المواجهات المسلحة في الاهوار لم تكن من نسج الخيال بل هي من صميم الواقع، استقاها الكاتب من اصحابها.

في مدينة جزائرية حيث يعمل البطلان، ومن خلال عشرات المواقف التي تصادفهما يوميا يستحضران بشكل عفوي تجاربهم العراقية المثيرة والمؤلمة في ذات الوقت، وفي شمال افريقيا ترتسم امامهم بيئة الاهوار بكل ما فيها من تفاصيل غريبة. هكذا يتنقّل الكاتب برشاقة قلمه المعهود بين محطات ابطال الرواية ومن حولهم من الجزائر الى جنوب العراق وبالعكس، معاناة تطال الجميع والسبب فيها ليس الاغنياء فقط ولا الدكتاتوريات بل اضافة الى ذلك غموض المفاهيم وضبابيتها وانتهازية بعض الثوريين.

ورغم ان الرواية التي صدرت في مطلع الثمانينات لم تكن مجهولة تماما كما يعتقد البعض فقد طبعت مرات عديدة، الا ان الجدل المثار حولها بعد محاولة اعادة طباعتها في مصر مطلع الالفية الثالثة جعلها تتسيد المشهد الاعلامي بشكل غير مسبوق، لكن تسيّدها المشهد الاعلامي لم يكن من زاوية كونها عملا فنيا محكما يعالج العديد من القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية في العالم العربي بشكل عام، بل كانت الشهرة ناتجة عن الجدل الذي اثير حولها باعتبارها رواية تسيء الى اللاهوت.

 

 

إقرأ أيضا