“ضيف الاليزيه” وحقيقة الدور الفرنسي في العراق والمنطقة

تحاور “العالم الجديد” في هذا التقرير الباحث المختص بالانثروبولوجيا السياسية، والمدير السابق للمعهد الفرنسي للشرق…

حل ضيفا على قصر الإليزيه في باريس أمس الخميس، (٥ تشرين الاول نوفمبر الحالي)، رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، تلبية لدعوة رسمية تلقاها من رئيس الجمهورية الفرنسي إيمانويل ماكرون، في اطار الدعم الخارجي غير المسبوق الذي تحظى به بغداد.

استبق الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الفرنسية الزيارة بالقول إنها ستعزز علاقاتنا ودعمنا لهذا الشريك الأساسي، نافيا أي دور فرنسي للوساطة بين بغداد وحكومة اقليم كردستان.

وحول معرفة الدور الفرنسي في العراق، وفهم افضل للمواقف السياسية الداخلية الفرنسية من العراق، واستفتاء اقليم كردستان، والنظرة لمستقبل البلاد، وتاثير الدور الذي لعبه الفيلسوف والكاتب الفرنسي المثير للجدل برنار هنري ليفي، ناهيك عن سياسة باريس حول المنطقة، حاورت “العالم الجديد” الباحث في الانثروبولوجيا السياسية، والمدير السابق للمعهد الفرنسي للشرق الادنى/ فرع العراق الدكتور هشام داود، الذي يرى أن “فهم الدور الفرنسي في العراق والمنطقة يتوقف على معرفة كيف تتحكم فرنسا بعلاقاتها الخارجية”.

ويوضح داود أن “فرنسا بلد رئاسي بامتياز، يكون رسم العلاقات الخارجية فيه من صلاحيات الرئيس المطلقة، لكن لوزير خارجيته جان إيف لودريان رأيا وتأثيرا يعودان الى قوة شخصيته، ومعرفته بالملفات الساخنة، فضلا عن مصداقيته داخل البلاد، وعلاقاته الممتازة بشركاء فرنسا في المنطقة والعالم، أضف الى ذلك، كونه تابعا للرئيس ماكرون مباشرة، وليس لرئيس الحكومة المسؤول عن ادارة شؤون البلد الداخلية”.

ويبين “مرت علاقة وزير خارجية فرنسا الحالي، بالرئيس إيمانويل ماكرون بمراحل عدة رغم قصر الفترة الزمنية له في الوزارة، فقد كان من الداعمين الاساسيين (والبعض يقول الحاسمين) لماكرون اثناء حملته الانتخابية، أمام مرشحي اليسار الاشتراكي والوسط. ومقابل هذا الدعم الاساسي، كان يتوقع الحصول على منصب رئيس الوزراء”، مشيرا الى أن “للوزير لودريان رؤية سياسية ديغولية – ميتراندية عند التعاطي لازمات المنطقة، فهو ميال لتقوية الدول على حساب الهويات الفرعية، وبناء علاقات شراكة قوية ليس فقط في مجال الاقتصاد الكلاسيكي، بل والدفاع، وكمثال على ذلك، فقد مرت على بيع أول نماذج طائرة الرافال الحربية الفرنسية لدول اجنبية قرابة الـ20 عاما، لكن لودريان نجح مؤخرا في تسويق العشرات من هذه الطائرة التي تعتبر من بين الاغلى في العالم الى مصر، ثم الهند، وربما البرازيل، وقد انتقده البعض كونه اقرب الى شرعنة الديكتاتوريات منه الى سماع أنين ضحاياها، كنظام عبد الفتاح السيسي، والعديد من دول افريقيا غير الديمقراطية، وتواصله مع روسيا بوتين، الخ”.

وحول الموقف من العراق، يبين الدكتور هشام داود بالقول “حتى الامس كانت مواقف ماكرون متقاربة من رؤية وزير خارجيته جان ايف لودريان، كتهنئته العراق على انتصاراته على داعش (له اقوال عديدة في هذا المجال)، التذكير بوحدة العراق وقدرات جيشه الجديد، تذكيره بتطلع فرنسا لبناء علاقات اكثر صلابة مع بغداد، الخ. جاء ذلك في وقت تشهد فيه العلاقات الاقتصادية الفرنسية – الايرانية هي الاخرى شيئا من الانفتاح الخجول، إذ وقعت شركة توتال الفرنسية العملاقة مع الحكومة الايرانية عقدا بقيمة خمسة مليارات دولار للتنقيب في احدى اكبر حقول الغاز في العالم: بارس والمتقاسمة مع قطر”، مؤكدا أن “زيارة رئيس الوزراء العبادي لباريس الخميس الماضي، جاءت ضمن هذا السياق الدولي والاقليمي المؤيد للعراق ورغبة باريس بالتواجد والانفتاح اكثر على وسط وجنوب البلد، سيما في مجال الطاقة والاتصالات والدفاع والبنى التحتية”.

ويشير الى أن “موقف باريس من استفتاء اقليم كردستان شهد هو الآخر تطورات سريعة ومتواترة: فقد بدأت بوقوف باريس الواضح مع الحكومة الاتحادية العراقية، ودعمها لما تسميه بوحدة التراب الوطني العراقي، ودعوتها للاحتكام الى الدستور لحل النزاعات الداخلية، واعطاء الاولوية لتحسين العلاقات بالمركز، على عكس سياسية الثنائي فرانسوا هولند – لوران فابيوس اللذين توقعا تفكك الدولة العراقية مما دفعهم للرهان على علاقات استراتيجية مستقبلية اكثر مع اربيل”، مذكرا بأن “فرنسا ماكرون (على عكس سياسة سلفه فرانسوا هولند) صوتت على بيان مجلس الامن الداعي لتأجيل الاستفتاء، واتصل بعدها الرئيس ماكرون شخصيا بمسعود البرزاني لحثه على التريث. ولم يشهد لباريس في الاسابيع والاشهر الاخيرة اي موقف مغاير وسلبي بشأن العراق في الاتحاد الاوروبي والمحافل الدولية”.

ويضيف الدكتور داود الى أن “البعض فهم ربما خطأ حصول تغير ما في موقف باريس من العراق بعد استفتاء اقليم كردستان، الا أن الحقيقة اكثر تعقيدا مما نراه : هناك الارادوية الماكرونية التي تعتقد بانها قادرة على تغيير المعطيات الميدانية بوساطات سريعة. وهذه الارادوية مرتبطة بطبيعة الرئيس الفرنسي الجديد الذي يفضل الظهور في العديد من الازمات الدولية كمطفئ للحرائق، وخالق لفرص جديدة للتعايش. وبما انه قد نجح، بالامس القريب، بجمع المتحاربين الليبيين حول طاولة المفاوضات في باريس، فلم لا يعيد الكرّة هذه المرة مع العراقيين”، منوها الى أنه “يجب عدم الاستهانة بضغط مجموعة مهنية متمرسة جدا باستخدام آليات الضغط (اللوبي)، ولها مداخل عدة للاعلام الفرنسي والاوروبي والعالمي، وخاصة الفيلسوف والكاتب الفرنسي، برنانر هنري ليفي، ولهذا الاخير حضور مستمر في اقليم كردستان العراق، لكن ما يؤاخذ عليه في باريس انتاجه افلاما وثائقية تمجد بشخصيته اكثر من وقوفها عند بطولات البيشمركة الحقيقية، فضلا عن هبوط مصداقيته بشدة بعد سلسلة تطورات كارثية في بلدان دعمها بشدة : الاحداث الليبية (كونه عراب تلك المغامرة)، الفوضى والحرب الاهلية في جنوب السودان بدل الاستقلال الوردي الموعود (كان ليفي احد دعاتها الاساسيين)، وايضا تجربته السابقة مع (مجاهدي افغانستان)، ولكن لليفي مواقف يشهد لها بالنجاح مثلا البوسنة، ودفاعه عن الشيشان، واليوم نراه عائدا الى العراق من بوابة كردستان. كل شيء متغير عند برنار هنري ليفي الا نقطتان: التصدي لما يسميه بالاسلام الراديكالي، الذي بات يشكل الخطورة الكبرى حسب الكاتب، بعد انهيار الشيوعية. الى جانب تمسكه بأمن وقيم اسرائيل. في مقاله الخير المنشور في صحيفة الليبراسيون الفرنسية (٢٩ ايلول المنصرم) والذي يذكر فيه ان حصار كردستان العراق يذكره بالبوسنة وبحصار اسرائيل يوم ولاتها. دون ادنى شك، لبرنارد هنير ليفي بعض التأثير على الخطاب الرئاسي الفرنسي الاخير، حيث بقي متمسكا بوحدة العراق ودستوره، ولكنه اضاف لازمة جديدة: استعداد باريس للعب دور الوسيط بين بغداد واربيل (اي العمل على ادخال شيء من التدويل)، وايضا الحديث «الاعتراف بحقوق الاكراد في اطار الدستور»، دون ان يذكر لنا الرئيس ماكرون ماهي هذه الحقوق ومكانتها في الدستور العراقي»!

وهنا يؤكد الباحث العراقي المعروف على “ضرورة عدم التقليل من قلق العالم الغربي من تطورات العراق الاخيرة: دخول بغداد في تحالف عسكري وسياسي مع تركيا وايران ضد جزء من سكانه الكرد. الصورة السلبية للجمهورية الاسلامية الايرانية ولحكومة اردوغان في الغرب لا تساعدان بغداد بالظهور بمظهر الدولة القانونية والمتفهمة لمشاعر القوميات المكونة لها. فايران وتركيان، بنظر الغرب، دولتان رافضتان للتعديدية الاثنية والتعبير الديمقراطي. بكلمة اخرى ان دعم وحدة العراق واحترام دستوره لا يعني ضوء اخضر لتحشيد عسكري عراقي – تركي – ايران ضد الاقليم”. 

وحول مجمل هذه الاشكاليات، يؤكد “عدم وجود مقاربة واحدة في باريس وبقية العواصم الاوروبية، ولكنهم (على خلاف الطبقة السياسية العراقية) تحدثوا امام العراقيين بصوت واحد، دافعوا عن مصالح بلدانهم، دون ان يعني ذلك بانهم ليسوا عرضة لخلافات ايديولوجية واستراتيجية عميقة عند النظر لمجتمعاتنا وللاسلام بالتحديد. وهذا التوازن الدقيق يكشفه تصريح الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الفرنسية وتصريح الرئيس ماكرون في مؤتمره الصحفي المشترك مع السيد العبادي في قصر الايليزيه، والذي يشبه مغارة علي بابا، نجد فيه ما يفرح كل فريق وملّة حيث التأكيد على الدستور ووحدة العراق جاء لتطمين المركز الاتحادي ورئيس الوزراء العراقي، مثلما نجد الاشارة الى ضرورة الوصول لآليات حوكمة اكثر شمولية لكل المجاميع الاثنية والمذهبية العراقية (موجه للعرب السنة والكورد). مع التأكيد مجددا باستعداد باريس التوسط في الخلاف بين بغداد واربيل”.

كل هذا الدعم يتوقف (بحسب داود) على “ما ينتظره العالم من بغداد كجهد اضافي، متمثل بالاصلاح الحقيقي واشراك الجميع في آلية صياغة القرار عماده المواطنة والمؤسساتية والسلم المجتمعي”، منوها الى أن “العديد من المراقبين الدوليين يرون بأن السيد العبادي ربما يكون الخاسر السياسي الاكبر في الازمة الحالية بين بغداد واربيل. من يذكر اليوم ما خاضته حكومة السيد العبادي على مدى سنوات ثلاث قاسية من الكفاح المرير لارجاع ما تم فقدانه في ثلاث ايام ؟ وانفتاحه على محيطه العربي، محاولة تمايزه عن طهران، التأكيد اكثر فأكثر على المواطنة؟

وختم الباحث هشام داود حديثه حول الملف العراقي بالقول إن “الحزم لا يعني حصرا اللعب في ساحة الصقور، في وقت عُرف عن حيدر العبادي كونه مهندس حل الازمات اكثر منه مشعل صراعات وحروب”.

اما بشأن الاولويات السياسة الخارجية الجديدة للرئيس ماكرون، فيجملها الباحث العراقي المختص ايضا بالشأن الفرنسي بالقول “يمكن تصنيفها على الشكل التالي: الهدف الأول: إنعاش الحلم الاوروبي الذي تعرض الى هزات عنيفة في السنوات الاخيرة، ولعب دور ديناميكي اكثر وضوحا داخل الاتحاد الاوروبي. الاولوية الثانية: للرئيس الجديد هي تقوية العلاقات مع بلدان شمال افريقيا وخاصة المغرب، ومحاولة لعب دور الوسيط في ليبيا دون التوقف عند مسؤولية باريس فيما آلت اليه اوضاع ليبيا اليوم. والاولوية الثالثة لماكرون: هي الابتعاد عن سياسة المحاور في الخليج العربي، وعليه لم تتخذ باريس موقفا واضحا، لا مع الدوحة ولا مع الرياض، ولا حتى مع حليفتها العسكرية الوحيدة في المنطقة: أبو ظبي حيث تحتفظ فرنسا بقاعدة عسكرية في هذه الامارة الخليجية، ومنها تنطلق العديد من الطائرات لضرب مواقع داعش في العراق وسوريا”، منوها الى أن “الجديد فرنسيا هو الانتقاد النادر لولي عهد الامارات العربية المتحدة، الشيخ محمد بن زايد الذي يراه البعض في باريس بأنه المهندس الفعلي للنزاعات العنيفة وأزمات المنطقة، باعتبار أن الامارات اليوم موغلة في صراعات اليمن، وليبيا، وسوريا، وضد تركيا أردوغان، وايران، حيث تتعلق هذه السياسة بأسباب تاريخية منها احتلال ايران للجزر الاماراتية الثلاث عام ١٩٧٥، وموقفها المناهض للاخوان المسلمين اينما كانوا، الى جانب سياستها الضبابية ازاء العراق، وهذا ما يؤكد أن ما نسميه بالتجايل السياسي في الخليج لا يعني بالضرورة المزيد من الانفتاح، بل ربما المزيد من التسلطية برداء وخطاب حداثوي”.

وحول تعامل باريس مع سائر الملفات العربية يتابع قائلا، إن « كانت لفرنسا سياسة وصفها البعض بالغامضة ازاء الجماعات الارهابية في سوريا مثل جبهة النصرة، وربما حتى داعش لحين ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥ يوم تعرضت باريس للعديد من العمليات الارهابية الكبيرة والتي راح ضحيتها المئات من الابرياء”، لافتا الى أن “سياستها في المنطقة قبل الهجوم الارهابي، في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولند، يمكن اختزالها بالمعادلة التالية: (لسنا مطالبين بالاختيار بين حكومة بشار الاسد وداعش). وعلى مستوى سياستها في المنطقة، اعتمدت باريس معادلة أشد غرابة، تتناقض مع تاريخها الدبلوماسي القديم منه والحديث: (نحن مع الاغلبية السنية ضد الشيعة ومع الاغلبية الاثنية العربية ضد الفرس). لكن بعد وصول ماكرون للحكم، ظهرت معادلة نسبيا جديدة تقول: (عدو فرنسا الاول هو داعش والارهاب، وبشار الاسد هو عدو الشعب السوري). بطبيعة الحال، لا تمر المقاربة الاخيرة دون صعوبات وسط تقاطع وصراع مصالح ايديولوجية متضاربة داخل الطاقم الحكومي الفرنسي”.

وبخصوص الموقف من النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، يوضح الباحث الانثربولوجي أن “ماكرون لم يبق على علاقات فرنسا المتميزة باسرائيل فحسب، بل زادها توددا، فهو الذي استقبل مؤخرا رئيس وزراء اسرائيل ناتنياهو قائلا: (كل من ينادي بمعاداة الصهيونية هو معاد للسامية). في المقابل، ظلت العلاقة الرسمية الفرنسية الفلسطينية، فاترة، دون أن تسجل تقدم حقيقي”.

وأمام تزايد الصعوبات الاقتصادية الداخلية، ونزعة الرئيس الشاب ماكرون بالظهور اكثر على الساحة الدولية (رغم تجربته المحدودة في هذا المجال) نراه يفاجئ العالم بعلاقاته الغريبة والمتفهمة لدونالد ترمب، عدا خلافه الواضح حول اشكالية الاحتباس الحراري، واستقباله لبوتين في قصر فرساي الملكي وبعدها لناتنياهو، الخ. ربما يصح القول سايكولوجيا (والكلام للباحث هشام داود) بأن ماكرون اليوم منهمك في عملية بحث مستمرة عن كسب سياسي ودبلوماسي واعتراف دولي لم يره مواطنوه بعد في الداخل، إن كان على المستوى الاقتصادي او الاجتماعي”.

الصورة: للدكتور هشام داود

إقرأ أيضا