تحقيق استقصائي فرنسي يكشف عن تزود قاعدة أمريكية في العراق بوقود ايراني

نشرت صحيفة “ميديا بارت” الفرنسية، أحدث تحقيقاتها الاستقصائية بشأن الفساد في العراق، وتطرقت فيه الى…

نشرت صحيفة “ميديا بارت” الفرنسية، أحدث تحقيقاتها الاستقصائية بشأن الفساد في العراق، وتطرقت فيه الى تورط جماعات مسلحة قريبة من طهران في قيادة ملف الفساد، كاشفة عن تزويدها قاعدة أمريكية في البلاد بالوقود الايراني، في مخالفة واضحة للعقوبات التي شرعتها الولايات المتحدة نفسها ضد الجمهورية الاسلامية منذ سنوات.

وتبدأ الصحيفة الفرنسية الشهيرة، تحقيقها، بملاحقة صهريج من نوع مرسيدس، وهو يدخل حاجز قاعدة عين الأسد العسكرية في صلاح الدين (180 كيلومترا شمال غرب بغداد)، حيث تم فحص لوحته التي تحمل الرقم 32-AA-665، وأوراق السائق أيضا عند البوابة، إذ ليس من السهل الدخول الى أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في العراق.

يذكر أن هذه القاعدة تم استخدامها لأول مرّة من قبل الأمريكيين بين عامي 2003  و2011، ثم مرّة أخرى في عام 2014 تحت عنوان القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

وتؤكد حصولها على وثائق وصور وفيديوهات تظهر حجم التهريب الذي يتجاوز العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، وحظرها من تصدير مصادر الطاقة، إلا أنه يُعاد بيعها للأمريكان.

الأمر يسجل مفارقة غريبة، ليس على مستوى العلاقة بين البلدين العدوين، بل إن ذلك يجري في بلد يتبوأ موقع خامس احتياطي نفطي مثبت في العالم، في حين يجد نفسه مجبرا على استيراد الطاقة.

لهذا يشتري العراق الغاز الخاص به من إيران، عدوّة الولايات المتحدة، مصدر العقوبات الشديدة التي تمنع طهران من تصدير المحروقات، وللقيام بذلك، تمنح واشنطن رخصة استيراد قابلة للتجديد كل ثلاثة أشهر، بصورة استثنائية للعراق، على الرغم من عقوباتها المفروضة ضد إيران.

بين الخطاب الدبلوماسي والحقائق الميدانية، يوجد عالم سخيف أحيانا، كما تتحدث “ميديا بارت” الفرنسية، إذ لم يكن هذا الاتجار ممكنا لولا مشاركة فصائل في “الحشد الشعبي”، وهو الكيان الذي يضم الفصائل الشيعية التي شاركت بتحرير الموصل من قبضة داعش في العام 2014. لكن ومع انتهاء سيطرة التنظيم في العراق، بدأت بعض تلك الفصائل بالنمو كنظام موازٍ غير رسمي، حيث تسببت بتعطيل معابر بريّة وبحريّة للبلاد، ومارست التهريب، في ظل إفلاتها من العقاب.

دولة منهارة

تشبه الصحيفة الفرنسية وضع العراق الحالي، بـ”كابوس” حزيران يونيو 2014، عندما استولى جهاديو الدولة الإسلامية على الموصل، وذلك من خلال مقارنتها ذلك بالاستعراض العسكري وسط بغداد لجماعة “ربع الله” المكونة من رجال ملثمين استخدموا العشرات من السيارات الكاكية ذات الدفع الرباعي، فيما أطلق بعضهم النار في الهواء، وآخرون رفعوا لافتات تتحدى “المحتل الأمريكي” وتهين رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.

وتتطرق لعلاقة تلك الفصائل بايران وإطلاقها الصواريخ بانتظام على السفارة الأمريكية في بغداد أو على القواعد العسكرية للبلد، ما تسبب بإدراج العديد من تلك المجاميع وقادتها المجموعة على لائحة الارهاب من قبل الأمريكيين.

وبما أنه “كان من المستحيل القيام بأعمال تجارية في العراق من دون المرور بالميليشيات”، فقد كان على إيران، المختنقة من جراء العقوبات الاقتصادية الجديدة التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، خفض تمويل الميليشيات العراقية، فتوجب على الأخيرة البحث عن مصادر مالية بديلة لضمان استمرارها.

وتشير الصحيفة في تحقيقها، الى أن بعض الفصائل لم تعد تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية، ولكنها لا تزال مؤثرة وقادرة على تنفيذ هجمات في جميع أنحاء البلاد، وباتت الآن تقوم بأخذ الفدية والتهريب والابتزاز والاختطاف لتمويل أنشطتها.

وبحسب الوثائق التي أتيحت للصحيفة، فان التهريب يمر عبر شركة رينوس المملوكة من قبل مقاول عراقي اسمه أمير رشيد، تشتري الديزل من شركات إيرانية، بالاضافة الى توثيق طلبات الشراء المختلفة، مع نسخة الاتفاق، وأختام لشركتين إيرانيتين مقرّهما طهران هما “آرتين فارابار” و”أرارات صبوران تارابار”، مع أسماء السائقين وأرقام الشاحنات المسجلة في إيران، متطرقة الى رجل آخر مدان بالفساد، يدعى جمال العليم، وهو يساهم بنقل الحمولة الى قاعدة عين الأسد من مقر إقامته في إقليم كردستان، عبر شركة نقل Renos في أربيل.

وفي حين، لا يبدو أحد داخل القاعدة الأمريكية مهتما بمصدر الوقود، ناهيك عن نوعيته الرديئة، كما يتضح من التحليلات التي تشير اليها “ميديا بارت”، يعاد بيعه بثمن أعلى بكثير، في ظل تكرار عمليات العنف والوسطاء المتعددين بين الجمارك وقاعدة عين الأسد يجعل المعاملات مبهمة بشكل كامل.

وتكشف الصحيفة الفرنسية، عن أن “البنتاغون ينفق حوالي 15 مليون دولار شهريا لشراء وقود لقاعدة عين الأسد وحدها، بواقع 10 دولارات للغالون الواحد (حوالي أربعة لترات)، وهو رقم يبلغ خمسة أضعاف سعر السوق الفعلي، الأمر الذي سمح للتهريب بالازدهار، وفتح شهية الميليشيات”.

هذه المسألة، مهما كانت خطيرة، إلا أنها ليست سوى الجزء المرئي من جبل جليدي لا يكفّ عن التنامي في البلد الذي مزقته الحروب والغزو الأمريكي 2003، لأنّ مشكلة التعتيم والميليشيات الوسيطة لا تتعلق فقط بالطاقة، بل بجميع المعاملات التجارية، كما تنقل الصحيفة عن مصادرها.

تُمسك الميليشيات الآن بزمام الفساد، حتى أن وزير المالية الحالي علي علاوي يعترف بذلك، حين يقول “التواطؤ الأعوج بين المسؤولين، والأحزاب السياسية والميليشيات والعصابات ورجال الأعمال يؤدي إلى نهب الأموال العامة”، والدولة العراقية هي أول من يُعاقب لأنها لا تحصل إلا على 10 إلى 12٪ من إيرادات الجمارك في السنة.

الفساد أم الوطن

تلفت الصحيفة الشهيرة، الى أن من الواضح اليوم أن الفساد في العراق ليس من عمل قلّة من رجال الأعمال والسياسيين، فهو ليس منظما وحسب، بل هو الآن أشبه بعمل العصابات، ما جعل عراق ما بعد صدام بعيدا عن النموذج الذي دعت إليه ادارة جورج بوش الابن في 2003، من نظام قائم على العدالة الاجتماعية، المواطنة والديمقراطية الفاعلة.

في ذات الوقت الذي ينهار فيه النظام الحالي يصبح الفساد ممنهجا، حتى أنّ الولايات المتحدة المنخرطة بعمق في هذه العملية، غير قادرة الآن على عكس هذا المسار، ليس لأنّ غزو العراق ساهم في تدمير الاقتصاد، ولكن قبل كل شيء لأن أمريكا تقوم بشراء النفط الذي يغذي هذا الفساد، ولا يزال نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يمدّ العراق بما لا يقل عن 10 مليارات دولار في السنة بفضل مبيعات النفط في البلاد، ولا يزال البنتاغون يموّل بالمليارات القواعد العسكرية التابعة للدولة، في حين يغذي جزء كبير من هذا المبلغ ماكينة الفساد السريعة في العراق، وفي الوقت نفسه، تفرض الولايات المتحدة العقوبات على كلا البلدين المجاورين للعراق، وهما إيران وسوريا، اللتان يتشارك معهما العراق حدودا قابلة للاختراق، وتسيطر عليها الميليشيات.

أرض خصبة  للفساد

في تشرين الأول أكتوبر 2019، هزّت التظاهرات الغاضبة المناهضة للحكومة، بقيادة الشباب الشيعة (كما تقول الصحيفة الفرنسية)، بغداد ومدن الجنوب في ثورة هزّت النظام في جوهره، وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين العراقيين أدركوا الحاجة للإصلاحات، إلا أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء ضد الميليشيات التي تدافع عن هذا النظام وتعتدي وتختطف وتقتل المتظاهرين، إذ لا يزال العراق خلال العام 2021، في حالة ركود اجتماعي عميق يتفاقم بسبب فساد وانحلال مؤسساته، فالشعب ثائرٌ منذ عامين ويوجه الأصابع باتجاه النظام السياسي القائم على أساس الطائفية والمذهبية، فيما تتصدى هذه الميليشيات التي تسيطر على البلد في التصدي لهذا الغضب، بهدف ادامة النظام لإطالة أمد الحرب بين الدولة المجاورة وإيران والولايات المتحدة.

إنّ انقلاب الميليشيات على اقتصاد البلد ينزع الحلم البعيد بعراق مستقل، فاستعراض 25 آذار مارس 2021 يحمل عدّة دلالات، أولها أن الحكومة عاجزة وغير قادرة على ردّ هذه التهديدات، بالاضافة الى فشل الأمة في إعادة بناء نفسها، فهي عالقة بين المطرقة الأمريكية والسندان الايراني، وإذا ما أرادت الحكومة العراقية النجاة، فيتعين عليها اتخاذ أحد الخيارين: إما أن تسمح للنظام السياسي الذي يشجع على الفساد بالاستمرار، أو أن تصغي لشعبها.

وتختتم الصحيفة بسؤال للسياسيين العراقيين: إذا لم تكن حدود الدولة ممسوكة من قبل جيشها، فهل يمكننا التحدث عن أمة ذات سيادة؟

للاطلاع على التحقيق باللغة الأصلية: (انقر هنا)

إقرأ أيضا