تعاظم الأعراف العشائرية وظاهرة الموت في الطرقات

لم يكن يدور في خلد أحد، أن يموت شخص بسبب النزيف عقب تعرضه لحادث، دون…

لم يكن يدور في خلد أحد، أن يموت شخص بسبب النزيف عقب تعرضه لحادث، دون أن يسعفه أحد من المارة، بسبب الخوف من الملاحقة القانونية والعشائرية، لكن هذا ما جرى مع طبيبة أسنان في العاصمة بغداد، التي واجهت مصيرا مأساويا حين تركت 45 دقيقة مضرجة بدمائها دون إسعاف.

حكاية طبيبة الأسنان الشابة ديانا البديري، التي تعرضت لحادث خلال قيادتها لسيارتها على طريق بسماية جنوب شرقي العاصمة بغداد، أثارت الرأي العام ووجهت الأنظار نحو أزمة اجتماعية كبيرة خلقتها الأعراف العشائرية، وهي ملاحقة المسعف، لكن هذه المرة ليست ملاحقة، بل انتهت القصة بموت الطبيبة.

حكاية الطبيبية البديري ليست الوحيدة، فهي انتهت بموتها، لكن لقاسم علي (38 عاما)، حكاية أخرى، وهي ملاحقته من قبل عشيرة شخص تعرض للدهس وقام بنقله إلى المستشفى قبل أن يتوفى هناك، ما دفع العشيرة إلى اتهامه بدهسه.

“سأبقى أشعر بالندم طيلة حياتي، لأني قدمت المساعدة لشخص وجدته طريح الأرض ومضرج بدمائه في أحد طرق العاصمة بغداد”، هكذا يعبر علي عن أسفه لتقديمه المساعدة بسبب ما تعرض له من مطاردة عشائرية دفعته إلى تغيير منزله وهروبه لمنطقة أخرى.

“لم اتمالك نفسي عندما وجدته ينزف في الطريق، فسرعان ما ركنت سيارتي وترجلت منها ووجدته ما يزال على قيد الحياة، إذ نقلته بسيارتي إلى مستشفى قريب”، يسرد علي حكايته لـ”العالم الجديد”، حيث سرعان ما انقلب معروفه إلى سوء ضده.

ويكمل حديثه “في المستشفى تم احتجازي ومنعت من المغادرة من قبل الأمن، حتى يتم التحقيق معي، وبعدها بفترة قصيرة أبلغت بوفاة الشخص الذي ساعدته، وخلال هذه الفترة كان ذووه قد وصلوا إلى المستشفى بعد أن تم إبلاغهم بأنه تعرض إلى حادث، وهنا أصبحت أنا المتهم بدهسه لكوني أنا الذي نقلته للمستشفى”.

“ذوو المتوفى لم يرفعوا دعوى ضدي، لكنهم لاحقوني عشائريا، وسرعان ما عرفوا منزلي، لتبدأ حكاية رعب عبر الكتابة على جدران المنزل ورمي الإطلاقات النارية، مطالبين بدفع فصل عشائري (دية مالية)”، مؤكدا “أنا من الأشخاص البعيدين عن الأعراف العشائرية، ولا يوجد لدي ارتباطات وثيقة، وأحاول قدر الإمكان الابتعاد عنها، لذا انتقلت سريعا من منزلي، وسط هلع أطفالي، حيث تعرضنا إلى أزمة كبيرة بسبب ما جرى”.

ويكمل علي سرده لقصته، قائلا إن “انتقالي من منزلي لم يكن نهاية المطاف، بل توالت التهديدات والملاحقة لأقاربي، في محاولة للوصول إلى عنوان سكني الجديد أو عنوان عملي، حتى بتنا نعيش في رعب حقيقي، خاصة وأنهم يطالبون بجلسة فصل ربما تكلف مبالغ خيالية، وأنا من الأساس بريء”.

هذا القلق والخوف من الملاحقة القانونية، عزاه سالم العكيلي، شيخ عشيرة العكيل خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إلى انتشار من أسماهم بـ”شيوخ التسعين”، قائلا إن “شيوخ الصدفة ممن نشأوا بعد العام 1990 تلاعبوا بالسنن العشائرية المعمول بها، من قبيل الدية وغيرها، حتى أنها وصلت إلى مليارات الدنانير”.

وبرزت تسمية “شيوخ التسعين” على بعض رجال العشائر ممن قربهم رئيس النظام السابق صدام حسين، ومنحهم امتيازات وأسلحة، ومكنهم من أخذ دورهم كشيوخ عشائر، بعيدا عن شيوخ العشائر الحقيقيين.

ويضيف العكيلي، أن “غالبية شيوخ العموم يرفضون الباطل ولا يقبلون به، ولكن من نقصدهم بالدخلاء هم من يعدون أحد أطراف الفصل بجلب مبالغ مالية كبيرة وهذا ما شوه سمعة العشائر”، متابعا أن “تاريخ الفصل (الدية) يعود إلى أكثر من 500 عام، والسنن مأخوذة من القرآن والسنة النبوية، ومن إيجابياتها أنها تعتبر رادعا للكثير من الشباب في عدم تجاوزهم أو اعتدائهم على الآخرين، ومن بعض السلبيات هو التجاوز على الطبيب عند وفاة المريض، وهنا يجبر الطبيب على الفصل (الخضوع للدية) أو كتابة عبارة مطلوب عشائريا على مركز أو مستشفى، وهذا ترفضه كل العشائر المحترمة”.

ويدعو العكيلي كافة العشائر، إلى “حصر أسماء الشيوخ الدخلاء، الذين باتوا يطالبون ويتاجرون وحولوا الفصول العشائرية إلى وسيلة ربح”. في إشارة إلى انتشار بعض المحتالين ممن يزعمون أنهم شيوخ عشائر لتحميل عائلة ما مسؤولية معينة وإجبارها على دفع دية مالية كبيرة تعرف بالفصل العشائري.

يشار إلى أن ظاهرة النزاعات العشائرية والفصول، تنامت بشكل لافت خلال السنوات الماضية، ولم تستطع الدولة السيطرة عليها، رغم أن مجلس القضاء الأعلى شمل ما يسمى بـ”الدكة العشائرية” أي إطلاق النار على منزل شخص آخر لأسباب عشائرية بقانون الإرهاب، واعتقال المنفذين لها، إلا أن النزاعات والتصفيات الجسدية ما زالت مستمرة.

وكان للأطباء حصة من الملاحقة العشائرية، بسبب وفاة المريض مهما كانت حالته الصحية، وقد حاولت الحكومة المتعاقبة وضع الحلول لهذا الأمر وتوفير الحماية للأطباء، لكن دون جدوى، فما زالت التهديدات مستمرة، كما طالت التهديدات العشائرية مؤسسات الدولة أيضا، إذ انتشرت كتابات “مطلوبة عشائريا” على جدران المستشفيات ومدارس، بسبب خلافات مع شخوص فيها.

وبشأن تنامي هذه الظاهرة، يوضح الباحث الاجتماعي والاكاديمي عبد المنعم جبار خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الديات أو الفصول العشائرية تعود للعصور الجاهلية، والعرب كانت تدفع الديات عندما تشتد أي معركة، ومن الأمثلة فأن هرم بن سنان (أمير بني ذبيان المتوفي سنة 608 ميلادية) ضحى بجميع امواله لدفع الديات بهدف إيقاف الحرب انذاك، وبعد الإسلام اصبحت الديات شرعية ولكل شيء دية حسب الفعل سواء القتل والجريمة أو غيرها”.

ويضيف جبار، أن “العصر الحديث وظهور القانون أعاد تلك التقاليد والأعراف لمحلها، إذ تقريبا في نهاية سبعينيات القرن الماضي لم تكن هناك فصول عشائرية، بل كانت تسمى التأمين، وهي تحل محل الفصل العشائري حيث لا يرضى أهل القتيل أو الميت إلا بالتأمين”، مبينا أن “الفصول في بعض الأحيان تكون حلا للعديد من المشاكل وخاصة في العراق حيث يغيب القانون وتضعف الدولة”.

ويتابع أن “من الأمور التي كانت تسير عليها العشائر في العراق هي (السنينة)، وما تزال بعض العشائر محتفظة بها، وهذه تحدد الأرقام الخاصة بالفصل، أي المبالغ وغيرها من الأمور، لكن الآن باتت كل عشيرة تطلب ما ترغب فيه دون ضوابط، وأصبح رجل العشيرة يتحكم بالضابط والمدير والطبيب والأستاذ، مع أنه ربما لم يحصل على الشهادة الاجتماعية، وهذه مشكلة العراق الحديث”.

ويشير إلى أن “الفصول العشائرية أثرت على التربية وعادات المجتمع الأصيلة، وحتى أتاحت حدوث حالات نصب واحتيالات كثيرة، والكثير يسير بهذا الاتجاه من المأجورين وغيرهم، الذين همهم الأول هو المال، وهنا لا نعمم ونستثني الشيوخ التي تحافظ على مكانتها”، مؤكدا أن “هناك الكثير من الأشخاص المثقفين والمتحضرين الذي لا دخل لهم بمسألة العشائر، يخشون كثيرا مثل هذه الفصول والمشاكل العشائرية”.

وبالعودة إلى علي، فإن حكاية الرعب التي يعيشها ما تزال قائمة، إذ يقول “لم تنته حكايتي مع العشيرة التي تلاحقني، في وقت حاولت أن أضع حلا واتصلت ببعض معارفي لكن الأمر كان صعب للغاية ويتطلب أمولا طائلة لحله، وعندما أخضع لما يريدوه سأثبت التهمة على نفسي وانا لم اقترفها”.

إقرأ أيضا