العراق.. 20 عاماً من “الديمقراطية” القاتلة

كهذه الأيام، قبل عشرين سنة، كانت الطائرات الأميركية وصديقاتها تحجب سماء بلاد الرافدين، والدبابات والآليات…

كهذه الأيام، قبل عشرين سنة، كانت الطائرات الأمريكية وصديقاتها تحجب سماء بلاد الرافدين، والدبابات والآليات الغريبة الأخرى، تزحف نحو الإجهاز على العراق والإطاحة برئيسه صدام حسين. حينها، كانت الصواريخ تطير بوقود مكافحة الإرهاب والدفاع المسبق عن الأمن القومي الأمريكي والعالمي، بحجتين رئيسيتين: امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل ودعمه تنظيم القاعدة المتهم الأول وقتذاك بأحداث 11 من أيلول سبتمبر 2001، الحجّتان اللتان لم تصمدا طويلاً، وسرعان ما تبيّنت هشاشتهما، فحلّت الثالثة: تخليص العراقيين من أكثر رؤساء الأرض طغيانا ونشر الديمقراطية.

في أذهان تيارٍ، كان استحكم المكتب البيضاوي في واشنطن –الجمهوريون الجدد- ولا يفكر بالتنازل عنه، لم تطرأ الفكرة من العدم؛ 12 عاماً قبل ذاك التأريخ، قادت واشنطن الحملة العسكرية لتحرير الكويت من الجيش العراقي، كانت مغامرة صدام حسين النقطة الفصل بنظرة الولايات المتحدة إليه ونظامه، وكل ما تلاها صار حملةً ممتدة من الحصار والتضييق والحرب الاعلامية وصواريخ متناثرة، حتى أن “تغيير نظام صدام” تحول إلى قانون نهاية أكتوبر 1998 بعنوان “قانون تحرير العراق” الذي خصّص وقتذاك 97 مليون دولار لدعم وتمكين المعارضة العراقية.

وحتى “الديمقراطية”، كانت فكرة نشرها في الشرق الأوسط ابتداءً من العراق، وانتظار انتشار عدواها، متبناةً من “المحافظين الجدد” ومدعومة من آخرين، وبمقدمتهم اللوبي الصهيوني وإسرائيل نفسها، لكن في النهاية، ما حرّك جيوش الولايات المتحدة وحلفائها، من دون تفويض أممي، كان بالدرجة الأساس، حاجتها لرد اعتبارها بعد ضربة سبتمبر، وهذا ما يوحي به مسؤول مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي الأمريكي إبان أحداث سبتمبر ريتشارد كلارك بحديثه عن ليلة الحادثة في مركز عمليات الطوارئ، حين دخل الرئيس جورج بوش وقال “we are going to kick some ass”  وقطعاً، لم يكن يقصد ركل المؤخرات حرفياً.

توازياً مع تحرّك الآليات على شوارع العراق بين مدنه ومحافظاته، تحركت ظاهرة نهب فوضوية واسعة، لم تمنعها القوات الأمريكية، حتى أنها طالت المصارف والمتاحف، وسرقت أو بعثرت مؤسسات ووثائق لا حصر لها.

مباشرةً وبعد إتمام الاحتلال العسكري، عينت الولايات المتحدة هيئة لإدارة شؤون العراق باسم “مكتب المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار العراق” واختير العسكري الأمريكي المتقاعد جاي غارنر كمشرف عليها وسرعان ما حُلت وعين بول بريمر في مكان غارنر وتبدّل الاسم إلى “سلطة الائتلاف المؤقتة”.

أمرت سلطة بريمر، وقادته، بحل الجيش العراقي، وشكّلت، في تموز يوليو 2003 “مجلس الحكم” الذي كانت مهمته كتابة مسودة الدستور متمتعاً بصلاحيات محدودة أخرى.

أسست تلك اللحظات لنظام بالغ التعقيد، يرفع “الديمقراطية التعددية” عنواناً، ويضمر أو يؤجل مشكلات كبرى؛ نظام صُيِّر ليحكم مجتمعا منهكاً يعاني شروخاً إثنية وعرقية. أوكلت واشنطن المهمة فيه، للنخبة المتصدية الوحيدة، أو ما اعتقدتها نخبة، والتي تتمثل بجمع من الأحزاب والحركات والشخصيات المعارضة من المنفى، لتشكل طبقة متباينة بمشاريعها وغاياتها ونظرتها لفكرة الديمقراطية، بعيدة كل البعد عن الإجماع على فكرة الدولة، لكنها تغتنم ما أتيح لها وفقط.

كان غزو 2003 الرصاصة الأخيرة في جسد المؤسسات العراقية، فبعد حملات قصف عنيفة وحصار عازل تماما، وإدارة داخلية ترسّخ الخوف وتكترث لمصلحة الرئيس وحاشيته فقط، دعمت الولايات المتحدة سياسات عدالة انتقالية اقصائية، استغلتها الطبقة المتصدية لتنفيذ عمليات تصفية انتقامية حرمت البلاد طيفاً من النخب ذات الخبرة، بجريرة اجتثاث حزب البعث، أو الثأر، وهيكلت، بالإضافة للجيش، عددا من مؤسسات الدولة أو أجزاءً منها، ثم أعادت بناءها وفق نهج المحاصصة، الذي أسس لكل شيء، فغدت الحياة مقسمةً إلى حصص طائفية بحجة أنها ضمان لتمثيل الجميع ومشاركته في الحكم. نهج اتفاق الطائف اللبناني هذا، وصل تطبيقه حتى في اختيار حرّاس المدارس.

جاء الدستور الذي صُوت لصالحه تشرين الأول أكتوبر 2005 بنسبة 78% وبدفع من رجال دين وشيوخ عشائر وحملات ترويجية تؤجج مشاعر التوق إلى الحرية بعد أكثر من ثلاثة عقود من حكم الرجل الواحد، جاء كبشارة أولى لحياة جديدة، اعتقد العراقيون الذين صوّت أغلبهم لصالحه دون التمعن بنصوصه، أنه سيكون جامعاً مانعاً، يصدّ عنهم الضير ويغلق أبواب الموت والاستبداد، بالديمقراطية التي اتخذها طابعا والتعددية التي كررها، لكنه من جانب آخر ثبّت “المحاصصة” واقتسام السلطات بمفردات مثل تمثيل “مكونات” والتوازن المكوّناتي ونصوص تتحمّل تأويلات.

وخلال السنوات العشرين، تناوب سياسيون ومسؤولون عراقيون، بينهم رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، على الدعوة لتعديل الدستور، ومنذ أول برلمان منتخب، تشكلت لجان تعديل دستور، وتأجل تشكيل أخرى، آخرها محاولتان:

-أكتوبر 2019 وبدفع التظاهرات الجارفة، شكلت رئاسة الجمهورية لجنة لتعديل الدستور ومعالجة ثغراته

-نهاية يناير 2023 عين رئيس الوزراء محمد شياع السوداني مستشارا للشؤون الدستورية وبداية فبراير أعلن أن المستشار التقى رئيس الجمهورية وقدم مشروع تعدي الدستور للرئيس

لم تنته أيةٌ من المحاولات بنتيجة لغياب الإجماع السياسي على فكرة تعديل الدستور، كغيابها عن كل شيء.

منع الدستور العصيّ على التعديل، سنّ أيّ قوانين تتعارض مع مبادئ الديمقراطية، وأفرد بابه الثانية للحقوق والحريات، وطرّزها بنصوص أكثر من جيدة إذا ما قورنت بحقبة من اللادستور امتدت لأكثر من 30 سنة قبل الاحتلال، لكن 20 سنة من الحياة تحت مظلته، بعد الغزو، لم تكف لبرهنة صلابة هذه النصوص، لأن نصوصاً أخرى تعود لحقبة الديكتاتورية، ظلت سارية وتستخدم حين تقتضي الطبقة الحاكمة وبمقدمتها قانون العقوبات العراقي 111 لسنة 1969 الصادر من مجلس قيادة الثورة والذي لم يطله الاجتثاث، والمعبأ بنصوص تتنافى والدستور الجديد وباب حرياته، لكنه مازال مسلطا على من تريد الطبقة الحاكمة إسكاته.

وتلوّح قوى سياسية منذ سنوات بسنّ قانون “حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي” كأنه ليس كافياً، قانون مجلس قيادة الثورة، ومرّات عديدة، حاولت كتل برلمانية تمريره، لكن رأياً عاماً يتصدى، ونشطاء حقوقيون يستبقون، فيؤجل، حتى جاء الثالث من كانون الأول ديسمبر 2022 حين قرأ نواب الشعب، قراءةً أولى، القانون الذي سيراقب ما تقوله أفواه الشعب وما تكتبه أقلامهم ولوحات مفاتيحهم.

قانون آخر سعت قوى العراق الجديد السياسية مراراً لتمريره: “جرائم المعلوماتية” الذي يقيد حرية استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، ويضيّق على الاعلام والصحافة.

ومن دون الحاجة لقانون، تبتدع جهات تنفيذية بين حين وآخر، سبلا للانقضاض على حقّ حرية التعبير وحريات أخرى: في يناير/كانون الثاني 2023، شكلت وزارة الداخلية لجنة لمراقبة ما تعتبره محتوىً “هابط” على وسائل التواصل الاجتماعي.  كما أنشأت منصة “بلّغ” ليتمكن من يريد، بواسطتها، من الإبلاغ عن “المحتويات الإعلامية المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي وتتضمن إساءة للذوق العام وتحمل رسائل سلبية تخدش الحياء وتزعزع الاستقرار المجتمعي”، وأحالت اللجنة ما لا يقل عن 16 قضية للتحقيق الجنائي من قبل السلطات القضائية وبناءً على شكاوى عبر منصة “بلّغ”. وقد حكمت السلطات بالفعل على ستة أفراد بالسجن بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل.

وفي أحيان كثيرة، لا تحتاج أقطاب العملية السياسية أجهزة تنفيذية رسمية لإسكات خصومهم أو منتقديهم، فهي تمتلك من السلاح والسلطة والمساحة خارج القانون، ما يكفي لخطف أو قتل من تشاء.

على مؤشر الديمقراطية تراجع العراق إلى المرتبة 122 من أصل 179 دولة، بحسب تقرير 2023 الصادر عن قسم العلوم السياسية بجامعة غوتنبرغ. بعد أن كان العام الذي سبقه في المرتبة 118.

وتراجع 8 درجات على مؤشر حالة الديمقراطية في العالم إلى المركز 124عالميا وفق ما جاء في تقرير “مؤشر الديمقراطية” التابع لمجموعة الإيكونوميست البريطانية، الذي تتناول دراسته السنوية 167 دولة حول العالم.

وعلى صعيد حرية الصحافة يحتل العراق المرتبة 172 من أصل 180 دولة تمت فهرستها حسب “مراسلون بلا حدود”، وأحصت لجنة حماية الصحفيين مقتل 282 صحفيا وإعلاميا في العراق خلال الفترة بين 2003 و2023.

منذ الغزو، لم تتعدّ تمثلات الديمقراطية، حدود عملية الانتخابات، وهذا ما تعمل قيادات وطبقات الأحزاب والحركات المشاركة في معادلات التحاصص السياسي – النفعي، باستمرار، على تسويق أنه الديمقراطية كلّ الديمقراطية.

ومنذ ذلك التأريخ اقترع العراقيون في 6 انتخابات تشريعية واستفتاء وانتخاباتين محليتين لمجالس المحافظات:

يناير 2005: اختيار أعضاء الجمعية الوطنية المكونة من 275 مقعداً

اكتوبر 2005: الاستفتاء على نص الدستور العراقي

كانون الأول 2005: الانتخابات البرلمانية الأولى لاختيار 275 نائباً

كانون الثاني 2009: انتخابات مجالس المحافظات الأولى في 14 محافظة

آذار 2010: الانتخابات البرلمانية الثانية لاختيار 325 نائباً

2013: انتخابات مجالس المحافظات الثانية

نيسان 2014: انتخابات برلمانية لاختيار 328 نائبا

ايار 2018: انتخابات برلمانية لاختيار 329 نائبا

اكتوبر 2021: الانتخابات البرلمانية المبكرة

وانتخابات بعد أخرى، تراجعت نسب الاقبال والمشاركة حيث بلغت النسبة عام 2005 في الانتخابات 59 بالمائة، وعام 2010 وصلت 62.4 بالمائة، فيما بلغت 60 بالمائة في انتخابات عام 2014، بينما في انتخابات عام 2018 تراجعت إلى 44.52 بالمائة، حتى هبطت بانتخابات 2021 النيابية المبكرة إلى 41%

يعبر تراجع وتيرة الاقبال على الانتخابات، بطريقة أو بأخرى، عن عدم قناعة الناخبين بجدواها، ولن تكون هذه النتيجة مفاجئةً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار حياة الناخب/المواطن، والمشاهد التي تمرّ على شريط أيامه، وبمقدمتها، بالإضافة لانفلات السلاح وتشريعه، الفساد المتضخم والمتجذر والعصيّ على الاقتلاع لدرجة إفلات عرّابي صفّه الأول، وحتى الثاني، من العقاب بشكل شبه تام، حتى حلّ العراق، على مؤشر مدركات الفساد لعام 2022 التابع لمنظمة الشفافية الدولية، في المركز 157 من بين 180 دولة في التصنيف بـ 23 درجة لا غير.

في نظام سياسي كالذي صنعه الاحتلال على أنقاض نظام ديكتاتوري، سيجد الفاسدون باباً للهرب، وبابا أخرى للعودة بثوب أنظف، ولأن الأبواب لا حصر لها، فإنها في هذا النظام، تفضي إلى بعضها، لتتقاطع دروب المال الفاسد مع دروب السلاح والإرهاب والتجهيل وحتى التقديس.

تعيد، كلّ هذه التفاصيل، سؤال الديمقراطية بشكله البدائي، وبالنظر للتفاصيل نفسها، وقياسا بتجارب أخرى، ناجحة أم فاشلة في بقع أخرى من هذا العالم الشاسع، فإن الإجابة ببساطة ستكون: الديمقراطية شيء لا يشبه التجربة العراقة.

تحتاج، أول ما تحتاجه، أية ديمقراطية في العالم، إلى دولة، وتحتاج هذه الأخرى، أول ما تحتاجه، إلى احتكار القوّة قبل كلّ شيء، وكلّ الأشياء الأخرى ستأتي بعدها، فلن تنجح ديمقراطية طائفية، ولا ديمقراطية باقتصاد ريعي بدائي، ولن تنجح “ديمقراطية” مع انعدام الرؤية المستقبلية لكل شيء، وسيُحكم عليها بالفشل إذا انحدر فيها التعليم والصحة، وصارت قوانينها انتقائية، أو فاعلة بعين واحدة.

ولأن الديمقراطية، فتيةً كانت أم ناضجة، ليست انتخابات مشكوكا بكلّ أركانها فقط، فيمكن الوصول إلى نتيجةً واحدة، واحدة لا غير: إنها 20 عاماً من الديمقراطية الفاشلة، الديمقراطية القاتلة.

* اُنجزت المادة بدعم من “نيريج” وتنشر بالتعاون مع “العالم الجديد”

إقرأ أيضا