أحلام وأشباح

الأنانية الفئوية هي العنصر الغالب على أمنياتنا، ما الجديد في ذلك؟ هل نتحوّل إلى ذوات نبوية تشتعل فيها الحرائق حبّاً بأبناء جلدتها؟!. الأمر ليس كذلك قطعاً، ولا ننتظر من الناس إيثاراً بين ليلة وضحاها فهذه وظيفة الأفراد الأشداء. لقد حرّك محمد بن عبد الله سكونية التاريخ ودحرج كرة الثلج فتهاوت إمبراطوريات وتوحد العرب تحت راية هذا الرجل العظيم، بينما لم يكن ملوك العرب الغابرين ولا رؤساء القبائل يمتلكون هذا القلب الفولاذي الذي امتكله نبي الإسلام. مؤكد أن هذه المقارنة تذهب بنا بعيداً، لكن أحببت أن أوضّح: إن الناس تتباين في همومها وتطلّعاتها، غير إن الهموم والتطلعات، مهما كانت، على صغر حجمها فهي تلزمنا بالهم الأكبر، وهو الوطن وحدوده ومؤسساته التي تضمن لنا مانرغب شريطة أن لا نغض الطرف عن التضامن الشعبي، ففي هذا الأخير السر المستتر في عمارة الأوطان وتشييد الدول. أما الحلم في داخل المقهى والنظر إلى الغالبية العظمى من الناس كونهم لا يفهمون رطاناتنا، فهذا الحلم يصح فيما لو كنّا نبحر بسفينة في عرض المحيط.

فلنحسبها بعقلانية:لا يتحقق أمننا الخاص بمعزل عن أمن الآخرين، لأننا، وببساطة شديدة، لسنا في جزر معزولة في عرض المحيط، وما يصيب الآخرين يصيبنا بلا شك، والإعصار حينما يحدث لا ينتقي ضحاياه. يروي لي أحد الأصدقاء أنه التقى بشاعر يتذمّر من هذا المجتمع ” الجاهل” الذي لم يقدره حق قدره، لأنه أمضى سنين طويلة للعمل على “تنويره” فلم يحدث (بشعره الصاروخي) تغييراً يُذكَر!، ثمّ استباح لفمه من الشتائم ما يتناسب وهمومه التنويرية!. هذا النموذج وأمثاله يتفرض على الناس الإصغاء لشعره وهو جالس في المقهى، والناس لا ترى منه سوى ظِلاله وكهفه الإفلاطوني؛ ففي كهف إفلاطون لا نرى من الأشخاص سوى أشباحهم. وهذا الشبح، يعتقد جازماً، أنه تعرّض للخيانة من قبل الجمهور، لكنه لا يحاكم نفسه ولا يدري أنه يفتقر للحاضنة الشعبية التي تصغي إليه وتتقبله، ولعله يتوهم أن الناس ما إن تقرأ شعره حتى يتساقط المن والسلوى وتمطر السماء تنويراً خالصاً لوجه الله!.

تذكرني عصابية هذا الشاعر بقصة  حدثت في زمن الخوئي، وعن الحكايات الأسطورية التي تنقل عنه دون أن تراه الناس!، فهذه ضريبة الغموض والسرّانية التي دأبت عليها حوزة النجف يوم كان الخوئي مرجعاً لها، إذ لا يمكن حلّ طلاسمها والأجواء المحيطة بها إلا بمزيد من التأويلات.. على أي حال: يقول الراوي، دخلت على أحد وكلاء السيد الخوئي ليجد لي حلاً لمعضلة فقهية، وفي سياق الكلام ذكرت له أن سكنة مدينة الثورة/ الصدر يسكنون في بيوت ضيّقة للغاية وتتكدس فيها عائلتين أو أكثر.. استغرب الوكيل فرد عليه: تسكنون في بيت واحد؟!!… ويظهر من استغراب الوكيل أنه كان يعيش في جزيرة معزولة قوامها فقه الحيض والنفاس وكتاب الطهارة ولا يفهم ماذا يحدث في الخارج، وهذا ماجعل الراحل محمد محمد صادق الصدر يصفهم بـ ” فقهاء الحيض والنفاس”. لذا ليس غريباً على السيد الوكيل جهله بظاهرة متأصّلة في المجتمع العراقي مثل شاعرنا العزيز!، فكلاهما – الشاعر والوكيل – لا تراهم الناس سوى أشباحاً، وهم بدورهم لا يرون الناس سوى أشباحاً؛ الناس والمثقف الحالم ورجل الدين الكلاسيكي يتقاسمون كهوفهم بالتساوي..

إن نحلم بالتغيير وبالعلمانية والليبرالية والحرية فالحلم حق، لكن أن نحلم بمعزل عن هموم الناس، فقد يؤشر هذا الحلم إلى علامة بارزة للغاية وهي إننا نعكس وضعنا الفئوي تحديداً. فالوطن لا يستيقظ على غمغمات الحالمين وشتائم النرجسيين، ولا تبرز معالمه بالمغيبات والمعميات والسرّانيات. فمعجزة المثقف هنا وبالذات، أن تراه الناس بشحمه ولحمه ولسانه العربي المبين، فالناس لا تسلّم رقابها لأشباح.

أقرأ أيضا