رمضان الطعام الأخلاقي

لا يكتفي شهر رمضان المبارك بمصالحة الصائم مع جسده، الذي يتعرض لإنهاك الهضم على مدار سنة كاملة، بل إنه يعيد بشكل افتراضي تاريخي حركة “الطعام البطيء” إلى نشاطها بعد أن تم إجهاضها في مهدها من قبل رؤوس أموال شركات الأطعمة السريعة والإعلانات، التي وصفت تلك الحركة بمجرد توجه أخلاقي لا يجلب الأموال كما تفعل شركات الطعام السريع.

هذا التوجه الأخلاقي سنجده في صيام شهر رمضان، من دون أن تمتلك أي سلطة سياسية أو مالية الجرأة على انتقاد معاييره الإنسانية.

انبثقت “الطعام البطيء” بداية الثمانينات كحركة أخلاقية لمناهضة الوجبات السريعة في أوروبا. كانت فلسفتها في غاية العدالة من أجل جسد ودماغ الإنسان وهي تدافع عن الطعام البيتي المنتج بشكل أخلاقي، والذي يطبخ ويقدّم ويتم الاستمتاع به بما يكفي من الوقت لتذوّق مكوّناته. وبطبيعة الحال أن المثالية ليست مصدراً مالياً لمراكز النفوذ التجاري الذي انتصرت في النهاية للطعام السريع وأفرغت حركة “الطعام البطيء” من نشاطها.

أستعيد تلك الحركة لفرط عدالتها وأنا أعدد الاعتبارات الصحية التي يغدقها علينا الصيام على مدار شهر كامل عندما يتم التصالح مع الجسد، وتلك لعمري خصومة قائمة منذ أن استعرض الإنسان بطعامه وأسرف فيه ثم تفاخر، إلى أن وصلنا إلى عصر الهواتف الذكية وكأنها وجدت لتصوير أطباق الطعام ونشره على الناس!

ذلك ما يخلصنا منه شهر رائع من الصيام والهدوء الجسدي والذهني الذي ينعكس على سلاسة التفكير والعمل وجودة النوم والتسامح مع الآخر، فضلا عن تجسيد فلسفة الحركة الأوروبية التي أجهضت، عن الطعام المنتج بشكل أخلاقي.

عندما نحاول فهم أجسادنا من المهم أن يكون هناك فرق منهجي بين المعلومات التي توضع أمامنا والأفعال التي نتعمد كسرها بغطرسة على الرغم من معرفتنا بضرر ذلك، كما هو الحال في الإسراف المتعمد بالطعام، أو الوقوع تحت إغراء كلام المشاهير. نحن محاطون بالصور والأفكار التي تمت غربلتها من خلال المرشح الخادع لتحيز النشر والعرض التلفزيوني. خذ ما قالته ممثلة شهيرة “عليّ أن أتمتع بكل طعام يقدم إلي، وليذهب الطعام الصحي والريجيم إلى الجحيم”! هذا كلام يغري على الإسراف في غطرسة الطعام.

يمكن القول إن أدمغتنا تفرض علينا نوعاً من التحيز، على شكل “وهم التركيز”. عندما نفكر في قرار ما، فإننا نستدعي بعض الاعتبارات إلى أذهاننا ونهمل أخرى. ويضاف إلى ذلك الإغراء الذي يمثله الطعام وطريقة عرضه وتقديمه ورائحته، عندها نفرّط في أي محاذير ونحن نقدم عليه بشهية حقيقية أو متخيلة.

وحده الصيام في رمضان يوقف ذلك التحيز، بقواعد دينية لا خلاف عليها بين البشر، بمن فيهم غير المسلمين، وتدعمها العلوم الطبية، تلك القواعد تنم عن قناعة ذاتية أخلاقية، من دون وجود أي سلطة قادرة على تغييرها. فالصائم على العكس من غيره، لا يتأثر برائحة الطعام وشهيته عندما يكون صائماً، ويفترض به أيضا ألا يُقدم بشهية مبالغة على الطعام لحظة الإفطار. وإلا سينضم إلى المعادين لحركة “الطعام البطيء”.

لست متأكداً من وجود الكثير من الصائمين الذين يفكرون بالتصالح مع أجسادهم في شهر رمضان المبارك، عندما أشاهد التحيز المريع في نشر صحون الطعام والابتهاج بها كنوع من العروض الفارغة.

في النهاية، الطعام هو لغة الحب الخاصة لأجسادنا من أجل أن تبقى يقظة ومحافظة على جودتها كلما تقدم بنا العمر. لكننا نتعمد التعبير عن ازدرائنا لهذا الجسد بمجرد إنهاكه بالطعام وعدم مقاومة إغرائه، ويأتي شهر رمضان المبارك بتلقائية سنوية مقنعة ليعيد لنا التصالح مع أجسادنا، على أمل أن يبقى هذا التصالح عندما تنتهي أيامه الثلاثون، لكن ذلك لا يحدث لأغلبنا!

أقرأ أيضا