عادل الهاشمي وظلم الذاكرة

ليس عادل الهاشمي وحده من تعرض لظلم الذاكرة، لكن فضيلة الصورة التلفزيونية تجعل من الهاشمي حاضراً رغماً عن هذا الجحود الثقافي، فآراء الهاشمي المؤثرة في الموسيقى وعلوم الغناء تجعل منها مرجعاً، وحاجة ماسة ينبغي العودة إليها كلما أُعدت مادة تلفزيونية عن الغناء العربي، وبعد ثلاثة عشر عاماً على رحيله الصادم في القاهرة.

عندما وقفت أمامه للمرة الأولى قبل أكثر من أربعة عقود أمام مبنى جريدة الجمهورية ببغداد لم أدرك أن القدر الصحفي سيجعلني أقرب الناس إليه، وعندما جمعتنا الأقدار للمرة الأخيرة في معرض أبوظبي للكتاب قبل رحيله ببضعة أشهر، لم أدرك أيضا أنني سأفقد الرجل الذي صنع من زبدة اللغة النقدية ما يعادل التأثير الموسيقي على الأفئدة.

القنوات الفضائية تعيد اليوم آراء الهاشمي، لكنها تعجز عن دراسة أرثه النقدي في علوم الغناء، وإعادة تقديمه بما يليق بتجربة عربية متفردة ليس في خياراته المميزة في الكتابة فحسب، بل بالتقاطه الجانب المحسوس في علوم الغناء والتعبير عنه بلغة مصفدة ومشدودة بين الأدبي والنقدي.

ما تيسر للهاشمي وجعله ناقدا يرينا أين يختفي سر المبدع، أنه درس أعماق اللغة كما درس الموسيقى كطالب خارجي في معهد الموسيقى العربية بالقاهرة، وتعلم العزف على آلة موسيقية واحدة، كل ذلك أهله ليترك مدونة نقدية حافلة أثمرت مجموعة كتب آخرها صدر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بعنوان “الموسيقى العربية في مائة عام: أفكار وأصوات وأنغام 2000-1900” وكان بمثابة الوثيقة النقدية الأهم التي ينبغي العودة إليها لفهم طبيعة الحلول أمام الغناء العربي، كما هو الحال مع كتابه الآخر “الموسيقى والغناء من عصر الإسلام وحتى احتلال بغداد سنة 656”.

بل أن اللحنية العراقية لايمكن أن تُدرس من دون العودة إلى ما كتبه الهاشمي سواء بمئات المقالات والحوارات منذ سبعينيات القرن الماضي أثناء عمله في مجلة “ألف باء” وحتى جريدة الجمهورية البغدادية. إلا بعد المرور على كتابه “مسيرة اللحنية العراقية”، ثم كتابه “العود العربي بين التقليد والتقنية” على اعتبار أن مدرسة العود العراقي لاتضاهى عربياً وإقليمياً منذ أن وجد الشريف محي الدين حيدر تلك البذرة في منير وجميل بشير وسلمان شكر وروحي الخماش حتى وصلنا إلى سالم عبدالكريم وعلي الإمام ونصير شمه.

أحد أهم كتب الهاشمي كان عن الموسيقار الراحل طالب القره غولي، لكنه ضاع أو سرق في دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد ليضاف إلى الخيال السياسي الرخيص الذي صار يعامل ألحان القره غولي.

واليوم عندما نجد مروءة شخصية عند من يبحث أو يعلن عن وجود مخطوطة هذا الكتاب المفقود، فإنه لا يكتفي بموقفه الأخلاقي، بل سيقدم خدمة تاريخية للغناء العراقي والعربي، فما كتبه الهاشمي عن القره غولي كان مثل أي موسيقي يعيش تحت أوتار الكمانات وفي داخله ثمة حصان يتألم!
وأنا أستذكر الهاشمي اليوم عدت إلى كتابه الرائع “فن التلاوة أصوات وأنماط” في محاولة لإعادة الاعتبار لقراء التلاوة العراقية التي لم تفرط بخصوصيتها ولم تحظ بالقدر النقدي الذي يليق بها، ومن حس الحظ أن التسجيلات الرائعة للقراء العراقيين متاحة اليوم عند السيد المفرط بكرمه “يوتيوب”.

عندما وهن العمر بالناقد سعاد الهرمزي، لم يأب التفريط ببرنامجه الإذاعي “من الذاكرة” الذي استمر في البث على مدار عقود من إذاعة بغداد، فلم يجد غير أن يترك تلك الأمانة النقدية بيد الهاشمي الذي استمر في إعداد البرنامج، وتلك أيضا واحدة من أهم الوثائق الإذاعية التي تركها لنا.

واليوم عندما تقتبس الفضائيات كلام الهاشمي في برامجها الموسيقية، لاتسأل نفسها لماذا لا تجد معادلا معاصراً للهاشمي الذي توقف قلبه بعيداً عن بغداد في لحظة مثل كل ثواني الموت القاسية!

أقرأ أيضا