معارك ذهنية

التفكير الرغبوي يحاول أن يجعل من وساوسه  الشخصية حقيقة علمية، والتفكير الواقعي يحاول أن يرى الأشياء كما هي. الرغبة لا تراعي إمكانيات الواقع وشروطه، ولا تسعى لبناء المقدمات التأسيسية لتحقيق حلمها، بقدر ما هي حالة تشويش ومحاكاة لصور ذهنية تفتقر لشروطها الموضوعية، ما ينتج لاحقاً، حالة اغتراب شديدة ويولّد ردود أفعال سلبية وعطش لا ترويه كل أسقطاتنا الذهنية!. رؤية الأشياء كما هي لا يعني التسليم بها وإنما كخطوة أولية لفهم الواقع للبحث عن السياسات اللازمة لتغييره ولخلق إمكانات واحتمالات جديدة للفكر والحياة، وهذه الحالة لا يمكنها الظهور إلّا بنوع من التضامن بين أوساط المثقفين ليشكلّوا نموذجاً واقعياً لإلهام الآخرين.

 

وما شهدناه من ” الحراك المدني” وما رافقه من تشرذم وتشتت في الشعارات والخلافات المستمرة وبعثرة الجهود تجربة خصبة ومهمّة لفهم الفارق بين التفكير الرغبوي والواقعي، إذ كانت الرغبات والأحلام لا تناسب الواقع. وهذا ليس عيباً إطلاقاً، ولا اتهام لأحد بعينه، وإنما نرجعه إلى سياق ثقافي مضطرب ( ونحن أبناء هذا السياق ونتاجاته) كانت مآلاته ضعف التجربة وقلّة الخبرة وغياب الرؤية. فقد كانت ثمّة تجارب تاريخية مماثلة، تختلف بإخلاصها وهمّتها من حيث الدرجة بالتأكيد، لكنّها تعطينا مؤشراً لافتاً للبدايات الصعبة نحو التغيير،  وما رافقها من عثرات، ونحن بدورنا نستلهم العبر من أحداث التاريخ.  في كتابها ” في الثورة” تقول المنظرة السياسية (حنّة آرنت) ” إن استعدادات رجال الأدب الفرنسيين الذين كانوا سيقومون بالثورة كانت استعدادات مسرحية إلى أقصى حد.. ولم يكن لهم شيء من التجارب ليلجئوا إليها، وما عندهم فقط هو أفكار ومبادئ لم توضع موضع التجربة على أرض الواقع لكي ترشدهم وتلهمهم.. وشحنوا الكلمات الرومانية القديمة بمعانٍ مستفادة من اللغة والآداب وليس من التجريب والملاحظة..”. يظهر أن مثقفي فرنسا اجتاحتهم موجة أفكار رغبوية اصطدمت بحائط الواقع الصلب وتعلموا وتفهموا لاحقاً شروط التغيير الحقيقية؛ فالواقع أكبر من أحلام اليقظة.

 

 تتولّد الإمكانات من خلال التفكير، وهذا الأخير يضبط إيقاعه من خلال الاستعانة بأدوات نظرية تنبع من الواقع وتحدياته. مفهوم حرية المرأة، على سبيل المثال، كيف نحلل هذا المفهوم داخل سياقنا الثقافي المضطرب؟ أن نقلب الواقع جذرياً ونستبدل مفاهيم الحرس القديم الرجعية بأخرى تقدمية ونضع السياسات اللازمة لتطبيقها. لكن هذا الخبر لا يسرّ ” التنويريين” عندنا، لأن ثوراتهم التي يقومون بها هي محض ثورات ذهنية!، ولأن الواقع لا يحتمل مثل هذه الثورة لانعدام شروطها. فالحل، على سبيل المثال، تمكين المرأة ثقافياً واقتصادياً عن طريق التعليم والعمل، فسيغدو، مستقبلاً، مقدمة مهمة لتحرر المرأة. لكن أخشى إننا كـ “متنورين” نفكر بالمرأة من منظور آخر!.. المفاهيم دنيوية تاريخية بمعنى ليست رموزاً مقدسة، فالتعامل معها كمعايير صلبة يفقدها تاريخيتها ويضعها في عداد المقدس. مثال المرأة هو تمريناً نظرياً سريعاً وتذكرة لنا نحن “المتنورين” في الكيفية التي ننظر بواسطتها لقضايانا الأساسية.

  للأسف الشديد معظمنا يميل للتفكير الرغبوي لينفّس عن ضغوطه اليومية لاعتقاده إن التنفيس آلية ناجحة لطرد المكبوت، وهذا صحيح من الناحية التكتيكية، أمّا على المستوى البعيد يتعمّق فينا الأسى، ونتورّط ونورّط من وثقوا بنا.. بعبارة موجزة: إنها خطة إستراتيجية فاشلة. ولهذا الفشل علامات بارزة يمكن أن نحصيها في مشاهداتنا اليومية، ومنها الغرق في المواضيع الاستهلاكية على حساب قضايانا المركزية. وكتعبير عن الثمار المرّة لتجربتنا نلتهم الاستهلاكي واليومي والمكرر بشراهة ملحوظة ونضعه في سلّم أولوياتنا، ثم ننخرط للبحث عن امتيازاتنا الفئوية كما لو أن العالم مصمم خصيصاً لرغباتنا.. يقول الناقد العراقي صادق ناصر الصكَر أن ” المثقف الكبير من وجهة نظري، هو من يمتلك القدرة على التمييز بين القضايا الحقيقية وأشباه القضايا..” وهنا يمكن السر المستتر في بعض إخفاقاتنا.

أقرأ أيضا