دائرة الوعي المُغْلقَة هي فكرة طَرَحْتُها في كتابيَّ “هَتْكُ الأسرار” و”أوثان القديسين”، وباختصار أردت أن أقول عبرها أن الوعي البشري يدور داخل نطاق مغلق على نفسه من المُمْكِنات التي يستعملها في إدراك الواقع، ولا يمكنه إدراك ما يقع خارجها، وأنَّ هذه المُمْكِنات تشكَّلت وتطورت عبر تجربة البشر التاريخية الطويلة في التواصل مع المحيط. فتواصل الوعي ـ إذا تجنبنا مصطلح العقل ـ مع المحيط في إطار عملية إدراكه لا يتم إلا عبر جهاز المخ، والمخ هو المُمْكِن الأول في عملية الإدراك، ثم المخ لا يتواصل إلا عبر نوافذ الحواس، وهي المُمْكِن الثاني في هذه العمليَّة، والمُمْكِن الثالث هو طبيعة المحيط ومقدار ثراء التجربة التي يقدمها إلى المخ وحواسّه، والمحيط هنا هو كوكب الأرض، فنحن لا نعرف الاختلاف في تجربتنا فيما لو تشكَّل وعينا في كوكب مختلف. ثم نتج عن استعمال المخ للحواس في عمليَّة الإدراك وعبر استعمال آليتي التجريد والتعميم، خَلـْق منظومة اللغة والمفاهيم، وهي منظومة تأثرت بطبيعة المخ البشري من جهة، وطبيعة عمل الحواس ودقتها من جهة ثانية، وغنى التجارب التي مر بها البشر وهم يتعاملون مع محيطهم، من جهة ثالثة. ومنظومة اللغة وباعتبارها حجر الزاوية في عملية الإدراك، هي المُمْكِن الرابع.
الممكن الخامس هو ما أُحِبّ ان اسميه بـ”الضوابط المعياريَّة للإدراك”، ومن هذه الضوابط ما اصْطَلح عليه الفلاسفة بالمقولات، كمقولتي الزمان والمكان، أو ما سموه بالبديهيات كبداهة أن الكل أكبر من اجزائه. وهي ضوابط لأنها تضبط عملية الوعي على سكَّة تناسب قدرات المخ وغاياته، كما أنها معايير لأنها تساعِدُنا في فرز الصح من الخطأ والجيّد من الرديء. لكن كيف تحدث عمليتي الضبط والتعيير؟
حسنٌ؛ من الواضح أن المخ لا يستطيع إدراك الواقع من دون مقولتي الزمان والمكان، وهذا ما تَوَسَّعْتُ به في كتاب “أوثان القديسين”، وافْتَرَضْتُ هناك بان الوعي البشري ومن اجل ان يُراكم خبراته ويستفيد من تجاربه يعمل على أرشفة ذكرياته عبر تكوين ما يشبه الضفيرة الخاصَّة بكل معلومة، فَخْزن التجارب في الذاكرة، أو أرشفتها، لا يتم إلا عندما تكون لكل تجربة مُمَيّزات عدَّة تُميزها وتمنع اختلاطها مع غيرها، كما هو الحال مع الأسماء، فاسم الشخص لوحده لا يُمَيّزه لأن الأسماء تتشابه، ما يجعلنا بحاجة إلى اسم الأب، ثم اسم الجد من أجل عملية تمييز دقيقة، فالاسم الرابع لتمييز أدق، ثمَّ اسم الأم للتمييز الأكثر دقة. وهذا ما يحصل في عمليَّة أرشفة التجارب داخل الذاكرة، فالوعي لا يرسل التجربة إلى الذاكرة كمعلومة مجردة، بل يضيف إليها زمان ومكان وقوعها، ما يُشكِّل ضفيرة من ثلاث خصال على الأقل تُمَيّز كل تجربة وتمنع اختلاطها مع غيرها، من أجل أن تكون عملية الأرشفة أكثر جدوى وتكون عملية استدعاء التجارب لمقارنتها مع غيرها أكثر سهولة ويسراً.
هذا ما يتعلق بكون المُحَدِّد الخامس يضبط عملية الإدراك في سياقات محدَّدة، أما كونه معياريّاً، فلأنه يُستَعمل في تمييز الصحيح من الخاطئ، كما هو الحال في حُكْمنا بالخطأ على القول بأن الواحد أكبر من الاثنين، لأن لدينا بديهيّة تضبط احكامنا وفق حقيقة أن الجزء دائما أصغر من كله، لذلك فلا يمكن للواحد الذي هو جزء الاثنين أن يكون أكبر منها. هناك بالتأكيد أنواع أخرى من الضوابط لا يسع المجال لذكرها هنا.
بالجملة هذا هو المقصود بالمُمْكنات والمقصود بأنها تحبس الوعي داخل دائرتها، وكذلك المقصود بأنها تمنعه من رؤية ملا لا تسمح به مُمْكناتها، فما يقع خارج مدى الحواس لا يمكن إدراكه، مثله مثل الذي يقع خارج مديات منظومة اللغة والمفاهيم، فمثلاً نحن نُصنِّف الكائنات إلى عاقلة وغير عاقلة، وهو تصنيف أسَّسناه بعد عملية استقراء غير مباشرة لكل الكائنات من حولنا وقُمنا عبرها بصياغة مفهوم “الكائن العاقل”، وهذه الخبرة والمفهوم الناتج عنها جعلانا نعتقد بأن التقسيم إلى (عاقل/ غير عاقل) شامل وكافٍ لاستيعاب جميع أنواع الكائنات. لكن هل نستطيع أن نُنكر إمكان وجود كائن لا هو عاقل ولا هو غير عاقل؟ لا لا نستطيع أن نُنكر، الفايروس مثلاً يُخادع عمليات الدفاع التي تقوم بها الخلايا، هو يفعل ذلك وكأنه يُدْرك ما تفعله هذه الدفاعات فيتحايل عليها ويتكيَّف مع الظروف التي تخلقها، ولذلك ينجح بخلق أمراض جديدة غير مألوفة لنا سابقاً، الايدز مثلاً، انفلونزا الخنازير، انفلونزا الطيور وهكذا، إذن فما يفعله الفايروس قد يُخْرِجه من دائرة الكائنات غير العاقلة، فهل يُدْخِله في دائرة الكائنات العاقلة؟ لا طبعاً؛ لأن مفهوم العقل مَسْكوك ليشير إلى مجموعة من الفعاليات المُحدَّدة التي لا تنطبق على الفايروس، فهل يمكن أن نَسُكَّ مفهوما جديداً نصف فيه الفعاليات التي يقوم بها هذا الكائن؟
الفكرة التي أريد الوصول إليها، أن الفايروس يُعَرِّضنا لتجربة تقع خارج ممكنات الإدراك في وعينا، لأنه يتصرف بشكل لا يقع داخل ما ألِفْناه من تصرفات الكائنات العاقلة، ولا يقع داخل ما ألِفْناه من تصرفات الكائنات غير العاقلة، ولذلك نحن لا نستطيع ان نفهم لماذا يتصرف بالشكل الذي يتصرف وفقه. نفس الموضوع يمكن أن يقال عن “تصرفات” الفوتونات التي بدت في بعض التجارب وكأنها تتجنب عملية الرصد التي يقوم بها العلماء، أو تُخاتِلها، فهل تفعل ذلك كما نفعل نحن عندما نهرب من عين الرقيب؟ وهل يعني ذلك بأنها عاقلة؟
بعض المعطيات الأخرى أشَّرت إلى أن الفوتون يمكن أن يتواجد في أكثر من مكان بنفس الوقت، فهل أن هذا الامر ممكن الحدوث؟ ضوابط وعينا تقول أنه غير ممكن، فوجوده هناك يعني أنه غير موجود هنا، لكنه موجود هنا، إذن فهو موجود وغير موجود، فما الذي يحدث؟ الجواب أن ما يحدث هو أننا نتعامل مع تجارب تقع خارج الممكنات التي توفرها دائرة وعينا، وبالتالي فهذا الوعي غير مؤهل للحكم على هذه التجارب، فمفهوم الوجود مرتبط بتجربتنا التي وفرها وعينا خلال تعامله مع الأشياء المحيطة به، وهذا المفهوم قد لا يكفي لوصف الحال التي يكون عليها الفوتون، أقصد الحال التي جعلته يتواجد هنا وهناك بنفس الوقت، وهو حال أربك وعينا وجعله يفترض فرضيات هي أقرب للخياليَّة من وجهة نظري.
أريد أن أعود لمثال الفايروس، ولنفترض بأننا تأكدنا بان تصرفاته لا يمكن ان تصدر عن كائن غير عاقل، وقررنا أن نتواصل معه، فهل يمكن لنا أن نفعل ذلك؟ هل نكتب له رسالة مثلاً، أم ننادي عليه؟ لا طبعاً، لأنه لا يتحسس الضوء ولا الصوت، فكيف يمكن أن نخاطبه؟ وإذا كان لا يتحسس الواقع كما نفعل نحن، فهل أن المفاهيم التي يستعملها في إدراكه الواقع تشبه مفاهيمنا؟ بالتأكيد لا، إذن فالتواصل معه غير ممكن، أي أننا لن نستطيع أن نقول له بأن ما يفعله يُهدِّد حياة البشر؛ لأنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يَشُم. وهذا هو حال التواصل مع أي كائن لا يمتلك منظومة وعي كمنظومتنا. وهذه هي النتيجة الأهم التي أسعى لتأكيدها من وراء فكرة “دائرة الوعي المغلقة” والتي سأسعى إلى بحثها بشكل مفصل عبر سلسلة مقالات مطولة، تبدأ بهذا المقال.