سرديات مزيفة

دائماً ما تسود السرديات الهشّة والسطحية والجوفاء في تفسير حدث تاريخي معيّن أو محاولة لفهم الراهن. ذلك أن السلطة المهيمنة تجعل “الحقيقة في مكان آخر”.إن أميركا، مثلاً، غزت العراق لتخليص الإنسانية من كارثة أسلحة الدمار الشامل وخلّصتنا من الدكتاتور، وإن العالم لا يحتمل أشخاصاً دمويين مثل بشار وجماعته التي سحقت المواطن السوري الفقير( كان بشار ” دالاي لاما “سابقاً!)، وأن ليبيا تستحق الأفضل ما بعد القذّافي، وأن الفلسطينين ” إرهابيين”!، وأن فرنسا لبثت في الجزائرأكثرمن قرن، وقتلت مليون مجاهد جزائري بسبب حادثة المروحة الشهيرة!( كتب الأستاذ علاء اللامي مقالة ممتعة بخصوص سردية المروحة المزيفة).أليست هذه السرديات الرائجة في مخيلة الكثير ويوجد منها أضعاف مضاعفة؟. ماذا تركتكم لحكايات العجائز قبل النوم؟.

في منطقتنا العربية ماعليك سوى التفوّه بهذه العبارة “الإسلام السياسي مصدر خرابنا” أو “رجال الدين يحاربون العلم”، (تشبه عبارة ماركس الرائجة والمبتورة: “الدين أفيون الشعوب”)، ففي هذه اللحظة (العبقرية) ستتحول إلى كاتب “لامع” وتندرج في زمرة “المتنورين”. وستكون في حلّ من عناء البحث والسير في دهاليز التاريخ المظلمة، فالقضية لا ترتبط بهموم وعناء البحث عن الحقيقة، وإنما مرتبطة بعدوى التميّز والمحاكاة.

ليس عليك أن تكمل الحقيقة وتوضّح من يدعم الإسلام السياسي؛ فعلى سبيل المثال، حينما تكمل سرديتك وتكشف أن رعاة الإسلام السياسي والحركات التكفيرية هما السعودية وقطر، فستتحول إلى كاتب “رجعي” وينقطع رزقك ورزق عائلتك، فمن يعطيك ويدّس في جيبك غيرهم؟ (هذا الكلام مخصوص لمن تكتريهم وسائل الإعلام الخليجية: قناة العربية تتكلم عن الإسلام السياسي الأخوانيّ، والجزيرة تتكلم عن الإسلام الوهابي التكفيري في رحلة البحث عن الحقيقة!!).

ففي ذلك الحين تخسر روحك “التنويرية” ويتلاشى يقينك الصلب. يمكن لأي بائع سكَائر فقير أن يجيبنا بأريحية: أن تقسيم الوطن العربي وتحويله إلى دويلات وتدمير البنية التحتية، وتحطيم العراق وسوريا وليبيا واليمن لم يكن أمراً من النجف والأزهر والزيتونة، وأن المرتزقة الذين شاركوا في هذا التدمير تفوح منهم رائحة الدولارات الخليجية والدعم الغربي.

بالمناسبة: سردية الاحتلال الاستيطاني الصهيوني عادةً ما تغيب عن بعض هواة نقد الإسلام السياسي، وتبدو العلاقة طردية هنا!. حتى لو كانت هناك حركات دينية مقاومة لهذا الكيان، فلابد من نزع سلاحها دعماً للاستقرار السياسي!. بالطبع يعز على هؤلاء كثيراً أن لا يضعوا كل الحركات الدينية في سلّة واحدة، فسرديتهم هنا ستبدو خجولة أمام الإعلام الغربي ويغدو تقمّصهم ناقصاً ويفتقد لروح الاحتراف!، فلابد،إذاً، أن يضعوا كل حركة ذات صبغة دينية سبباً ” جوهرياً” في خرابنا، حتى لوقاتلت إسرائيل، فسيكون العذر هذه المرة مختلفاً ومضمونه:إن هذه الحركات تعرض عملية السلام إلى الخطر. قياس المخاطر عند هؤلاء ينحصر في أن ينعم المستوطنون بأمان.

 

على كل حال، آلاف الطلعات الجوية التي حطمت البنية التحتية لهذه البلدان لم تكن بتمويل من مجالس الإفتاء الدينية، بل كانت طائرات حلف الناتو فيما أعلم!. يمكن”للتنويريين” أن يتكلموا عن كل شيء إلا هذه الحقائق، ويمكنهم التبرير إلى مالا نهاية ليحافظوا على نسخهم الغربية المشوهة عسى أن يرضى عنهم الغرب.

 نحن هنا لا نسوغ خساسات الإسلام السياسي وجوقة  بعض رجال الدين المأزومين بعصابيّتهم وطائفيتهم وتخلفهم. لكن أن تختزل كل هذا الخراب تحت مسمّى ” رجال الدين” أو “الإسلام السياسي” فهذا مالا تقبله حتى السعودية وقطر!. نقد الخطاب الديني واجب عقلاني ولا يحتاج، بالطبع، إلى جواز”شرعي” من رجال الدين. فقط حينما نتلبس لبوس ” التنوير” فلنكن، على الأقل، نموذجاً مشرّفاً لحركة التنوير وندرس العوامل المشتركة التي ساهمت في خرابنا، هذا هو الدرس ببساطة!.

أقرأ أيضا