من قال أموري غاب عن أرواحنا؟

انفتح المشهد أمامي كاملاً على مدار عقود وأنا أقرأ خبراً صغيراً عن عزم السيدة سناء وتوت زوجة الموسيقار العراقي الراحل محمد جواد أموري، على نشر مذكراتها مع الذي أرّخ لأوجاع وآمال ملايين العشاق في ألحانه.

على الجانب الآخر يبدو نجله الفنان نؤاس أموري، مدفوعاً بالحفاظ على إرث والده الموسيقي عبر إعادة تسجيل أشهر ألحانه وتقديمها بطريقة معاصرة، لكنه في ذلك يفقدها خصوصيتها التعبيرية عندما يدخل عليها آلات إلكترونية عاجزة عن الوصول إلى روح النغمات التي تصدرها الكمانات مثلا، فنؤاس يدرك أن والده كان يستخرج الأرواح الهائمة في أوتار الكمان، فكيف لآلة إلكترونية أن تقترب من أوتار الروح، كما أنه يعلم أن والده استخرج أشد أوجاع الناي، فهل بمقدور نغمات مصطنعة الوصول إلى سحر ناي في لحنه الباهر “شضحيلك” قصيدة خيون دواي الفهد لصوت حميد منصور؟

كل ذلك نستطيع أن نشعر به ونحن نستمع إلى التوزيع الموسيقي الذي وضعه نؤاس على لحن والداه “ما أصدق” وهي أغنية رائعة كتبها ولحنها الراحل من دون أن يمنحها لأي من المطربين.

لكن ما فعله نؤاس كان أقسى، عندما أدخل آلات إلكترونية على أداء والده وسجلها بطريقة قاسية تغيّب عن محبي أموري صورته الموسيقية الفارهة.

مهما يكن من أمر، لا أحد يشك بإخلاص نؤاس لإرث والده الموسيقي، وبحكم معرفته فهو مطالب أن يحافظ على هذا الإرث بطرق علمية ولا ينصاع لرغبات السوق التجارية والترويج على حساب قيمة الشغف الموسيقي التي تركه أموري في مهج الملايين.

أقول انفتح المشهد أمامي وكأن أموري الذي رحل عن عالمنا عام 2014، عصي على الموت في كل ما تركه من ألحان. مازالت أتذكر لقائي الأخير معه قبل أكثر من ثلاثة عقود كان يجلس قبالتي بينما يجاورني الناقد والمعلم عادل الهاشمي، بعد أمسية بغدادية صيفية أقيمت لهما.

قال لي “يا كرم عليك أن تكف عن ملامتنا فيما تكتب، وتحملنا مأزق الأغنية العراقية، لأنني أحد الذين يمتلكون الحلول ولا أحد يأخذ بها”. كانت نبرته الغاضبة بود يكنه لي لا تتحمل الحوار أكثر مما قال، حتى الهاشمي همس بأذني مطالباً أن أترك، على الأقل هذا المساء، إيقاع الآخرين في “شراك لعبتي الصحافية”.

مع ذلك كان أموري صادقاً ومخلصاً فيما يقوله، فهو بالفعل كان يمتلك مجموعة من الألحان الرائعة ولا يجد من يؤديها، في زمن سادت فيه الأغنية الواقعة تحت أضواء العدسات التلفزيونية، بينما توارى الغناء عن جوهره.

واليوم يدفعنا الشوق أن نطالب نؤاس نجل الفنان الراحل أن يكشف حزمة الألحان التي أكملها والده ولم تسجل بأي من الأصوات الغنائية، مثلما نتوق إلى قراءة ما ستكتبه السيدة زوجته التي كانت شريكاً شاهداً على عقود فنية واجتماعية لايمكن أن تغادر مدونة التاريخ العراقي المعاصر.

العمق التعبيري في تجربة الموسيقار الراحل يكمن في فهمه العميق منذ أن شارك في تأسيس الفرقة السمفونية العراقية وبقي عازفاً فيها على آلتي الكمان والجلو على مدار ثلاثين عاماً. ويمكن العودة إلى لحنه لصوت عوض دوخي في قصيدة جعفر الأديب “هل جفاك النوم يوماً” لنعرف أي قيمة تركها أموري للموسيقى العربية.

 كما أن لمسته لا تقتصر على صوت واحد، بل أنه كان يقبل التحدي ويختار الأصوات ويستخرج العُرب الكامنة فيها، فبعد فقدان الأمل بالأغنية العراقية كان عليه أن يُحدث الألحان وبعد تجربة تاريخية باهرة مع جيل السبعينيات، ذلك مع مافعله مع الأصوات الشابة للفنانين كريم حسين ومضر محمد، وبوسعي أن أقول إن أموري قادر على اكتشاف أدق أوجاع الروح لدى الإنسان واستلهامها في جمل موسيقية ومن يعود إلى أغنية “عجب ياليل” بصوت مضر يكتشف السر في ألحان أموري.

أقرأ أيضا